هذه حقيقة ما يسمى بـ"الحوار"

Doc-P-170088-6367054009239578611280x960

ينقل عن ابن مسعود قوله: كنّا نُسَمّي السحر في الجاهلية العِضَة.. والعِضَه عند العرب: شدّة البَهت وتمويه الكذب. والكلمة المفتاح في ما قاله هي تمويه الكذب، فهذا هو الركيزة الأساس لمن يمارسون فن القبعات والأرانب.
صحيح أن ألعاب الخفّة ممتعة للجمهور الذي يصفّق لها في أول مرّة يشاهد فيها الخدعة إلا أنه إذا اعتمد "الساحر" الخدعة عينها مراراً وتكراراً فعندها تصبح ألعاب الخفّة هذه غير ممتعة أبداً خصوصاً عندما تكون مادتها الأساسيّة هي السياسة وإدارة شؤون الناس والهدف من وراء الخدعة البصريّة المعتمدة هو تعميق جهنّمهم وإطالة أوجاعهم ومآسيهم، فعندها تصبح ألعاباً سمجة مكروهة مرفوضة ولا يمكن قبولها بأي شكل من الأشكال.
وخدعة "الحوار"، واحدة من ألاعيب الخفّة التي يجيدها فريق الممانعة بشكل جيّد، فهو قد أداها سابقاً بشكل متقن وصفّق لها الجمهور إلا أنها اليوم لم تعد تنطلي على أحد. ففريق "8 آذار" بحنكة الرئيس بري ينتقي جيداً موعد أدائه لهذه الخدعة وهو عندما تتبدل موازين القوى السياسيّة في البلاد ويكون في حالة تراجع كبير وغير قادر على كبح سرعة مساره التراجعي عندها يطل علينا بعد أن يكون قد حضّر بشكل جيّد المسرح السياسي لأداء ألعاب الخفة السياسيّة التي يجيدها.
بالعودة إلى "خدعة الحوار"، فقد أداها فريق "8 آذار" في العام 2006 بعد اختلاف موازين القوى عقب الإنتخابات التي أطاحت بفريقه السياسي، يومها كان الأداء ممتازاً وحاز على تصفيق كثيف من الجمهور غير الضليع بألعاب الخفّة السياسيّة، وقد تمكن رئيس مجلس النواب يومها من تزيين خدعته بمؤثرات نظريّة مهمّة، فوضع لخدعة حواره عناوين براقة لماعة: ككشف الحقيقة في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والإغتيالات الأخرى، البحث في القرار 1559 وترسيم الحدود، وماهية "حزب الله" والعلاقة مع سوريا. واستمرت هذه الخدعة إلى حين حرب تموز من العام نفسه حيث تبيّن للقاصي والداني يومها حقيقتها، وهي: نخدع الخصم بأننا نريد الحوار حين نكون في حالة ضعف كي لا يتم القضاء على نهجنا السياسي ومن ثم بعد أن تهمد الأمور وتبرد نكمل بما نريده بغض النظر عن رأي من ندعي اننا نحاوره. إنها "سياسة السنبلة" التي لطالما أجاد انتهاجها الرئيس السوري حافظ الأسد بعكس نجله بشار، وقوامها أن السنبلة تتكي رأسها خلال العواصف إلى حد أن يصل إلى الأرض ويتسخ بالوحول إلا أنها حال ما تنتهي العاصفة تعود إلى سابق عهدها وتقف مرفوعة الرأس وكأن شيئاً لم يكن.
عاد الرئيس فريق الممانعة، إلى أداء نفس الخدعة ما بعد حرب تموز ودعا إلى استناف الحوار بصيغة تشاوريّة، لأن فريقه خرج من الحرب منهكاً بالرغم من إدعائه الإنتصارات الإلهيّة، والهدف يومها امتصاص الحالة السياسيّة وترددات القرار 1701، والإنتظار لكي تهدأ العاصفة. وبالفعل هذا ما حصل باعتبار أن الحوار لم يخرج بأي نتيجة سوى الآنفة الذكر.
ولكن "خدعة الحوار" لم تقف عند هذا الحد وإنما اقتنع بها البعض كمن يؤمن بأن الخدعة البصريّة التي شاهدها هي سحر حقيقي، فتحوّلت إلى "Trend" يتم الركون لها كلّما كان فريق "8 آذار" في مأزق ولكن بأشكال عدّة، ومعظمها يكون عبر لعب هذا الفريق بشكل مرحلي معيّن دور الإنفتاح ومد اليد، واللعب على وتر ما يؤمن به الفريق الآخر في البلاد من تعايش مشترك.
فبعد اجتياح "حزب الله" لعاصمة الجمهوريّة اللبنانيّة بيروت في 7 أيار 2008، وبدل أن يدفع ثمن فعلته، بدأنا نسمع بنغمة مد اليد واللعب على وتر "أم الصبي" و"خراب البصرة" فعدنا إلى "خدعة الحوار" مجدداً وبزينة ممتازة باعتبار أن أهدافه كانت: التباحث في الإستراتيجيّة الدفاعيّة والسلاح الفلسطيني داخل وخارج المخيمات والأوضاع الأمنيّة في البلاد. وعقدت 10 جلسات منه وانتهت بالفشل على خلفيّة تصاعد الإنقسام حول المحكمة الدوليّة وصدور القرار الظني.
لم تقف الأمور عند هذا الحد أبداً وأنما عدنا إلى النغمة نفسها مجدداً في حزيران من العام 2012 بجولة جديدة من الحوار انتهت باقرار "أعلان بعبدا". لكن "حزب الله" تنصل منه بعد أن وافق عليه على الطاولة وكان تصريح النائب محمد رعد الشهير "إن إعلان بعبدا ولد ميتاً". ولكن ذكاء فريق "8 آذار" في اللعب على وتر تركيبتنا الفكريّة وما نؤمن به من انفتاح وتقبل للآخر وعيش مشترك تمكن من بعض السياديين واستمر الحوار بالرغم من تنصله من التزاماته إلى أن أتت الجلسة الأخيرة التي عقدت برئاسة الرئيس ميشال سليمان في أيار الـ2014 لتستعرض أبرز ما أحرزته معظم جلسات الحوار من العام 2006 إلى العام 2014. والنتيجة كانت "لا شيء" وطنيّاً أما بالنسبة لـ"حزب الله" وفريق الممانعة فقد حقق لهم الحوار ما كانوا عاجزين عن تحقيقه في السياسة وهو "الإستمراريّة على نفس النهج للسيطرة على البلاد".
ولم نتعظ، وعدنا إلى نفس النغمة في العام 2015 في ظل الفراغ، فأعاد الرئيس بري مجدداً "خدعة الحوار" حيث كانت مواضيع البحث هي: الإنتخابات الرئاسيّة، استئناف عمل مجلس النواب والحكومة ومشروع قانون الإنتخابات. ولكن بعد 20 جلسة انتهى الحوار بتحقيق اتفاق وحيد وهو توقف الحوار في العام 2016 إلى أجل غير مسمى.
لذا وبعد هذا السرد، السؤال المنطقي هو: هل سنستمر كسياديين وكمواطنين لبنانيين بالسماح لفريق الممانعة باللعب على ما نؤمن به من مبادئ في كل مرّة، واستغلال هذا الأمر من أجل مأربه السياسيّة الضيقة؟ فنحن اليوم أمام نفس الخدعة للمرّة الخامسة، حيث أن هذا الفريق في مأزق ما بعده مأزق لأن التغيير على الأبواب ويريد منا أن نذهب إلى الحوار مجدداً من أجل كسب الوقت لكي يتنصل من مسؤوليّة تعطيله لإنتخابات رئاسة الجمهوريّة وتحويلها إلى أن "اللبنانيين يتحاورون إلا أنهم لم يتفقوا بعد" ليتشارك هذه المسؤوليّة مع الجميع.
لذا انطلاقاً من كل ما سبق، وعن سابق تصوّر وتصميم رفضنا الحوار وعلى كل لبناني سيادي مؤمن بالتغيير رفض هذه الخدعة. ولا يخرجن بعض المنظرين ليقولوا لنا أننا انعزاليون أبداً فنحن أهل الحوار ولكن ليعرف الجميع أننا لا يمكن أن نؤخذ على حين غرّة أبداً.
في الختام، لا بد من التذكير بالآية القرآنيّة من سورة يونس: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ}، لذا فليتقي الله من يمعنون بالشعب اللبناني بؤساً وفقراً وحرماناً وقهراً وتهجيراً لأنه لا بد أن يبطل سحرهم.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: