هل تأخذ واشنطن من إيران في العراق ما تعطيه في النووي ؟

2019_8_6_11_32_15_497 (1)

لم نعد أمام السؤال حول ماذا يجري في العراق وقد تجاوزت الأحداث في هذا البلد العربي الشقيق كل الحسابات انطلاقاً من داخل البيت الشيعي الذي انقسم بوضوح بين شيعة العرب في العراق وشيعة إيران في العراق.تخلي الأكثرية الشيعية بزعامة مقتدى الصدر لم يكن وليد الصدفة بل نتيجة تراكمات أنهكت العراق إقتصادياً وسياسياً ومؤسساتياً بسبب السياسات الايرانية التدخلية في شؤونه.واللافت أنه، وفي وقت تسعى فيه واشنطن مع الإيرانيين والأوروبيين الى إنجاز الاتفاق النووي، تتشابك الخطوط بصورة عكسية حيث نجد أن في العراق قرار بإنهاء السيطرة الإيرانية المتفردة بهذا البلد بغطاء أميركي - خليجي.بالأمس استقبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان المتحالف مع الجناح الشيعي الإيراني عمار الحكيم، بناءً لطلب الأخير، وقد كثرت التحاليل والاستنتاجات إنما الحقيقة هي أن الزيارة جاءت ترجمةً لقناعة بدأت تترسخ لدى شيعة إيران في العراق بوجوب الانفتاح على المملكة ببعديها الخليجي والعربي، لِما للمملكة من ثقلٍ سياسي وديبلوماسي وإقتصادي محوري لدول المنطقة كافة.

الرياض ربطت نزاعها مع طهران من خلال سلسلة اللقاءات التي عُقدت في العراق بمبادرة من رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي من أجل دعم هذا الأخير وتعويم دوره الذي لاقته الدول العربية في قمة العلا بالدعم والثناء، بهدف إعادة العراق الى الحضن العربي وانتشاله من براثن الاحتلال الإيراني المزمن.انطلاقاً من هذه الحقائق ومن مراقبة الأحداث والتطورات الإقليمية من البوابة العراقية، يُلاحظ أن ثمة قراراً أميركياً متخذً ومنفصلاً عن سيرورة الاتفاق النووي بإنهاء السيطرة الإيرانية على العراق والدلالات والمؤشرات هي الآتية :أولاً : مبادرة مسؤولين أميركيين سابقين كبار الى إماطة اللثام عن تفاصيل خطيرة متعلقة بالفصائل العراقية الموالية لإيران في العراق، متحدثين عن تغييرات مرتقبة في النظام السياسي العراقي، ومن بينهم السفير الأميركي السابق في سوريا روبيرت فورد الذي أكد التطلع الى تغيير النظام العراقي في حديث لصحيفة الشرق الأوسط بتاريخ ١٧ آب الجاري، وقد اعترف بأخطاء استراتيجية ارتكبتها واشنطن في العراق كمثل دعمها للنظام السياسي الحالي، والذي أثبت عقمه وفشله، كما اعترف بأن تلك الأخطاء خصوصاً في ما يتعلق بالتعاطي مع الفصائل العراقية الموالية لإيران هي التي أدت الى ما يحصل اليوم. وأعلن فورد أنه، أثناء عمله كمساعد للحاكم المدني بول برينر في العراق تعرّض هو لعملية اختطاف لأربع ساعات من قبل إحدى الفصائل المسلّحة، وعندما أُطلق سراحه لاحظ بأن الاأميركيين لم يكونوا يعيرون الاهتمام الكافي لمحاربة تلك الفصائل آنذاك فالتركيز الأميركي يومها كان منصبّاً على محاربة تنظيم القاعدة من العراق واستئصاله، واصفاً تعامل واشنطن مع تلك الفصائل "بالسذاجة" رغم علمها بخطورتها، إذ كانت واشنطن تأمل بانخراط تلك الفصائل في العملية الديمقراطية وفي العمل البرلماني، ما كان سيدفع بتلك الفصائل الى ترك السلاح والتحوّل الى أحزاب سياسية.

لكن لا الفصائل تخلّت عن سلاحها، ولا الحكومة العراقية نزعت عنها السلاح، ما وضع الأميركيين أمام حقيقة وجوب التعامل مع هذه الفصائل المسلحة، حتى عندما عادت واشنطن الى العراق عام ٢٠١٤ لمحاربة داعش لم تهتم بمحاربة تلك الفصائل، في وقت كانت تنمو وتتطور ويشتد تسلّطها على القرار العراقي والحياة السياسية في العراق.

كذلك يقول فورد أن واشنطن، ورغم علمها بالفساد في جهاز الحكومة وتدخلات رئيس الوزراء في أعمال تحقيقات هيئة النزاهة والضغط على تلك الهيئة مما أدى الى استقالة شخصين منها عام ٢٠٠٧، كانت واشنطن على علم بذلك ولم تتدخل.كذلك الميليشيات ضغطت بدورها على الهيئة ما وسع نطاق الفساد وقوى تلك الفصائل.ثانياً : تيقن واشنطن من أن الوجود الضاغط والمتنامي للفصائل الإيرانية في العراق بات تشكل خطراً جيو سياسياً على مصالحها في العراق والمنطقة،فهذه الفصائل المدعومة مباشرةً من إيران ثبّتت نفوذها السياسي والعسكري والمالي على العراق والعراقيين، وقد أصبحت قوة مؤثِرة في الداخل العراقي، مع امتدادات لنفوذها الى الداخل السوري عبر الفصائل الموالية لها هناك.الى الغرب من نهر الفرات وبالقرب من الحدود العراقية- السورية، بدأت تلك الفصائل تتحدى الوجود الأميركي شرقي نهر الفرات بهجمات متتالية كان آخرها هجوم حقل العمر الذي استهدف الوجود الأميركي منذ أيام، وقد ردّت واشنطن بغارات على الفصائل ومناطق انطلاق الهجمات الصاروخية،وما لبثت قوات التحالف وعلى رأسها واشنطن أن قصفت بطائرات مسيّرة قواعد للفصائل في البوكمال والميادين على الحدود العراقية- السورية، مستهدفة الفصائل الموالية لإيران التي لم يتأخر حرسها الثوري وفصائل أخرى موالية في سوريا من إرسال تعزيزات الى كلٍ من البوكمال والميادين لمواجهة الأميركيين، ما يعني تحدي الوجود الأميركي في المنطقة الأكثر حساسية جيو استراتيجياً أي الحدود السورية- العراقية.ثالثاً : تجاوز الميليشيات الإيرانية كل الخطوط الحمر وصولاً الى الاعتداء على القوات التركية كمثل ما حصل في مدينة تل رفعة حيث رُفع العلم الإيراني بتحدٍ واضحٍ للأتراك الساعين الى التوسع جنوباً لضمان منطقة آمنة داخل سوريا تقيهم العمليات الكردية، كما تدّعي أنقرة لتبرير عمليتها العسكرية الوشيكة.ومع ذلك فإن الهمّ الأميركي والغربي إزاء ما يحصل في العراق يتركز على تجنب اندلاع حرب أهلية في العراق كي لا تتأثر إمدادات النفط العراقي بالحرب، خصوصاً اذا تعرقل الاتفاق النووية مع إيران، ما سيؤدي أيضاً الى حرمان الأميركيين والغرب من الطاقة الإيرانية، فيما المملكة العربية السعودية على مسافة مما يحصل من تطورات في هذا الملف.

لذلك كله، فإن واشنطن اليوم متيقنة بضرورة إنهاء الدور المدمِر لتلك الفصائل التي تغاضت عنها سابقاً، فأزمة الطاقة نتيجة حرب أوكرانيا تدفع بواشنطن الى اللجوء الى استراتيجية "تقليم أظافر" الفصائل المسلّحة في العراق، وبالتالي بداية إضعافها كبديل عن التسبب بحرب أهلية، فضلاً عن حياكة صيغة جديدة لنظام عراقي يستجيب لإرادة العراقيين المعبّر عنها في ظل الأزمة السياسية الحالية.رابعاً : العراق بركان متفجر ستطال حممه المنطقة بأسرها، وبخاصة الدول التي فيها وجود لميليشيات وفصائل إيرانية، ما سيحتّم إعادة ترتيب لأوراق وخلط حسابات كثيرة. ولعل ما يحصل في العراق حالياً هو بداية موجة انقلابات على الدور الإيراني في الدول العربية المحتلة والمنطقة، وحال الإنسداد السياسي في العراق سينسحب على الدول المحتلة من إيران مثل اليمن ولبنان خصوصاً وأن المقايضة بين فساد حكام العراق الموالين لفصائل إيران ومن وراءهم كمثال نوري المالكي وبين التيار الصدري، لن تنجح كما لن تفلح في إيجاد أرضية مشتركة بين شيعة العراق وشيعة إيران.

فهل تبادر واشنطن الى الأخذ بيدٍ من العراقيين ما تعطيه بيدٍ أخرى عبر النووي؟

سؤال ينتظر إجابة ستكون الأيام والأسابيع القليلة المقبلة كفيلة بإظهارها.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: