من تداعيات الحرب في أوكرانيا بروز الاصطفافات الجغرافية - السياسية في منطقة الشرق الأوسط ، ذات العلاقة بالنفط والغاز والصناعة العسكرية، وبالذات الصواريخ والمسيّرات، لكنها في صلبها محليّة المخاوف والتطلعات الأمنية.
إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تعيش في مرحلة ما بعد انهيار المفاوضات النووية مع ايران، وهي تدرك أن طهران تستعدّ للانتقام خاصة متى اعتبرت ان تقارباً أميركياً – عربياً – خليجياً بمثابة تهديد لأمنها القومي، لا سيما بعد فشل طاولة التفاوض في الدوحة و فشل منصّة فيينا .تبذل إدارة الرئيس جو بايدن حاليا جهودها المركّزة في رسم خطة لمنظومة متكاملة، لدفاعات جوية في الشرق الأوسط، تتزامن مع زيارة الرئيس الاميركي للشرق الأوسط، وتحديداً في محطة الرياض، حيث سيجتمع بالعاهل السعودي ووليّ العهد، كما يشارك في قمّة تضم دول مجلس التعاون الخليجي الست، ومصر والأردن والعراق .
صفحة جديدة من العلاقات مع دول الشرق الأوسط والخليج يفتحها الرئيس بايدن، بعد طول جفاء بين إدارة الديمقراطيين ودول الخليج، ولا سيما المملكة العربية السعودية، صفحة جديدة فرضتها التطورات الأوكرانية والإيرانية، ولذلك ستتميّز زيارته بصعوبات استراتيجية. إدارة بايدن تدرك ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعمل على التأسيس لاصطفافٍ في الشرق الأوسط، يعزّز الترويكا الصينية - الروسية - الإيرانية، ويلعب الورقة الإسرائيلية بمغامرة وبحسابات دقيقة .
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يتحدى معسكر الغرب والناتو والولايات المتحدة الأميركية، لا يعتبرالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على أنه ينصر أوكرانيا وينتصر شخصياً بدعمٍ غربي، وهو بنظر سيد الكرملين خاسر حرب وإن ربح المعارك، لأنه ساهم في تدمير بلاده بإيحاء من الغرب، والتاريخ سيُسجّل له، ليس إنقاذ أوكرانيا من روسيا بل تقديم أوكرانيا فدية لحرب الناتو على روسيا. حرب روسيا في أوكرانيا، في نظر قيصر الكرملين ستؤدّي إلى انتصار روسيا، مهما كانت الكلفة ضخمة بكل المقاييس، واهمها العزلة الدولية.من ضمن خطة ردود فعله على تحالفات الغرب وحلفائه في حرب أوكرانيا، قرّر الرئيس بوتين إبلاغ الحكومة الإسرائيلية جدّية الإنذارات الروسية، والتحذير من عواقبها، وقد اصدر بوتين أمر التوقف عن كامل نشاطات "الوكالة اليهودية" لتأهيل اليهود في إسرائيل، مع إمكانية إغلاق الوكالة لأول مرة منذ إنشائها قبل حوالي 30 سنة .
بوتين ابلغ الحكومة الإسرائيلية أن عليها التوقف عن عملياتها العسكرية في سوريا ضد إيران و"حزب الله" ونظام باشر الأسد . لذا تجاهلت تل ابيب هذا الخطر الروسي، وصفت موسكو عندها تداعيات هذا الاحتمال "بداية لقصة سيئة"، ذلك أن موسكو قد تلجأ إلى استخدام قدراتها العسكرية، كتلك المضادة للصواريخ الإسرائيلية المتوجِّهة نحو سوريا.الرئيس بوتين يريد إبراز عضلاته في سوريا، وهو مستعد للمساهمة في عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم، علماً أن علاقة شخصية متينة دامت لسنوات بين الرجلين، كان لها افضل التأثير على علاقات البلدين .
ايران من جهتها تقف على صفيح ساخن من التطورات والحسابات وإعادة توتيب اوراقها، في ظل معطيات عن ان الحرس الثوري الإيراني يستعد للقيام بعمل ما ضد إسرائيل من الجبهة السورية، فإذا انخرطت روسيا وإيران و"حزب الله" معاً في التصدّي لإسرائيل في سوريا، فسيكون لذلك تداعيات خطيرة جدا على داخل سوريا وخارجها، وتحديداً في لبنان .فاذا تورطت روسيا مباشرة عسكريا ضد إسرائيل، ولو بعمليات محدودة فان ذلك سيكون بمثابة خط احمر أميركي وغربي، سيجّر المنطقة الى صراع دولي مسلح، تدفع البلدان المعنية في الشرق الأوسط فواتيرها .النهج السياسي للرئيس فلاديمير بوتين في الشرق الأوسط، يستند أساسا على الشراكة الاستراتيجية مع الجمهورية الإسلامية في ايران، وعلى تنمية القدرات الإيرانية في الشرق الأوسط، كي تكون طهران ركناً ثابتاً في الترويكا الصينية الروسية - الإيرانية. وان كان بوتين يعتبر علاقات روسيا الجيدة بالدول الخليجية العربية ضرورية، لكنه يدرك أن العلاقة الاستراتيجية الأساسية، هي بين هذه الدول والولايات المتحدة مهما شابها من نكسات، بغضّ النظر عما اذا كان في البيت الأبيض رئيس ديمقراطي او جمهوري .يبقى ان رهان الرئيس بوتين هو في أن تؤدي حرب أوكرانيا إلى إخراج الحزب الديموقراطي الأميركي من السلطة، وانتهاء ولاية جو بايدن عبر الانتخابات وعبر غضب الأميركيين من سياساته الاقتصادية، غير مبالين إن كان حلف الناتو قد حقق انتصار توسيع عضويته أو التصدّي للروس . وثمة قراءات روسية تصل الى حد توقع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض .
واشنطن تدرك عمق الحسابات الروسية، لذا ليس مسموحا لها في أوكرانيا، التلكّؤ في دعمها، مع الاخذ بالاعتبار خطورة الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع الروس .لا يمكن لواشنطن بالتالي التملّص من وعود تحقيق الفشل الاستراتيجي لروسيا، على الرغم من انّ المشاهد الميدانية تجعلها تفكّر ملياً، وتتردد قليلاً وهي تدرك أن الرئيس فلاديمير بوتين لن يقع في فخ، كالذي وقع فيه الرئيس العراقي صدام حسين لان لبوتين قدرة على إيقاع الاخرين بالمصيدة معه .إدارة الرئيس بايدن لم يكن يدور في بالها يوما من ان تصل الى مرحلة تضطر فيها الى الالتفات نحو السعودي، وقد دفعتها حرب بوتين على أوكرانيا الى هذا التحول، علما ان الكثيرين من اقطاب إدارة بايدن هم أقطاب إدارة أالرئيس باراك أوباما، فيعيدوا بذلك بأنفسهم عقارب الساعة الى الوراء، والتفكير الجدّي بأهمية العلاقات الأميركية الاستراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي، الأمنية منها والاقتصادية والنفطية والسياسية وتلك التي تدخل في خانة بيع السلاح.
حلف الناتو الذي يضم تركيا له مصلحة الآن في إصلاح العلاقات مع الدول الخليجية العربية، ليس فقط بسبب احتياج أوروبا للنفط تعويضاً عن النفط الروسي، بل أيضاً بسبب إمكان انتهاء المفاوضات النووية مع إيران، بفشل يحول دون تمكّن أوروبا من استيراد النفط الإيراني. تركيا كانت السبّاقة في اصلاح طابقها مع الدول الخليجية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، ففتحت صفحة جديدة مع مصر والإمارات ومع السعودية وإسرائيل، وكان ذلك بمثابة نقلة نوعية في إطار التموضع والاصطفافات الشرق أوسطية.
ثم إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استفاد كثيرا من حاجة دول الناتو إليه في زمن الحرب الأوكرانية. فهو ضَمنَ إعادة تأهيل تركيا في الناتو في أعقاب معاقبتها بسبب إقبالها على شراء شبكة S-400 الروسية المضادة للصواريخ، وقد وجد في الحرب الأوكرانية فرصة لمبيعات "الدرونز" أي المسيّرات التركية المتفوقة إلى أوكرانيا، بالرغم من حرصه على الظهور بمظهر الوسيط بين روسيا وأوكرانيا.وان كانت ملامح الناتو العربي ما زالت غير واضحة تماماً، الا ان القمة التي سيشارك فيها الرئيس بايدن في الرياض، تشكل دعامة أساسية ذات دلالات أمنية واقتصادية.. والمعلوم ان لإسرائيل علاقات رسمية مع كل من مصر والأردن، بموجب اتفاقات سلام ثنائية، وهي بدأت بالتطبيع مع دول خليجية، في طليعتها الإمارات وعمان والبحرين، وهي تأمل أن تستمر إدارة بايدن بما بدأته إدارة ترامب في إطار اتفاقات أبراهام، حتى الوصول الى السعودية .الصراع الاوكراني بتداعيات افرازاته الإستراتيجية في الشرق الأوسط على اشده، ونتائجه تعتمد إلى حد كبير على عودة الانسجام بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الخليجيين والعرب .