أكبر التحديات التي تواجه العرب ولا سيما الخليجيين تبقى عودة إيران للاتفاق النووي، تلك العودة التي وبحسب تفاصيل نُشرت على "إيران انترناشيونال" بصوت كبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني الذي أعلن بأن إيران سوف تمارس سياسةً إقليميةً مفتوحة، فتتصرف وتدعم وتتحرك عن طريق فصائلها المسلّحة وأحزابها السياسية في مختلف دول وجودهم في المنطقة العربية من دون تدخّل للولايات المتحدة الأميركية، وقد أكدت طهران احتفاظها ببرنامجها الباليستي ومسيراتها وميليشياتها.
ومع تطوّر ترسانتها النووية وتقدّم التكنولوجيا التي تعتمدها، احتفظت إيران بأجهزة الطرد المركزي المتطورة (الاي ار 6) من الجيل السادس، ما يسمح لها بتخصيب اليورانيوم بالسرعة القصوى في أي وقت، الا أن الأهم يبقى الضخ الهائل للأموال التي ستحصل عليها إيران من الاتفاقية النووية، ما سيسمح لها بالتأكيد بتمويل كافة أنشطة أذرعها في المنطقة، ويمكنها من الاستمرار في تصدير أجندتها السياسية والاستراتيجية في الشرق الأوسط.
مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات ( اف دي دي ) نشرت دراسة تفصيلية عن الأموال التي ستعود لإيران بعد العودة للاتفاقية النووية بحيث ستتحصل في السنة الأولى على مبلغ 275 مليار دولار، وبحلول العام 2030 حيث تتحرّر من الاتفاق النووي، فمن المتوقع أن يبلغ دخل إيران أكثر من تريليون دولار ما سيمكنها بكل سهولة من إنتاج قنبلتها النووية اذا استمر التوتر بينها وبين دول المنطقة في حينه.
كل المؤشرات العسكرية والإستخباراتية الإسرائيلية، والتي تتضافر مع حال التوتر والاحتقان السياسي في إسرائيل، تُنذر بقرب حصول ضربة إسرائيلية لإيران، فتَل أبيب تراقب على مدار الساعات ليلاً ونهاراً حركات الملاحة الإيرانية العسكرية، جواً وبراً، من والى طهران، وفي لبنان وسوريا والعراق، وترصد كل الطائرات الإيرانية المحمّلة بالأسلحة الى سوريا ولبنان، الأمر الذي يمكّن تل أبيب من شنّ غارات موضعية عند كل شحن لأسلحة ومعدات صاروخية لحزب الله عبر سوريا.
العراق بدوره في عين العاصفة من خلال الفصائل العراقية الموالية لطهران والتي ازدادت قوة في الآونة الأخيرة لدرجة تهديدها الوجود الأميركي شرق نهر الفرات، بدليل الهجمات التي استهدفت قواعد الجيش الأميركي والتحالف الدولي في التنف ودير الزور وسواها، وتزداد تلك الفصائل قوة داخل سوريا وعلى الحدود العراقية- السورية، ما يعني إمكان تقويتها أكثر فأكثر بعد عودة إيران للاتفاق النووي.
المرصد السوري لحقوق الإنسان ووكالة عين الفرات أكدا منذ أيام تفاصيل خطيرة عن الفصائل العراقية وتحركاتها في مواجهة القواعد العسكرية الأميركية شرقي نهر الفرات، وانطلاق الهجمات ضد الأميركيين بصواريخ من قاعدة الميادين مستهدفة حقل العمر النفطي الموجودة فيه القوات الأميركية، ما سبب في إجراء التحالف الدولي لمناورات عسكرية في المنطقة أوحت للفصائل المسلحة استعداداً أميركياً للهجوم عليها، فنصبت قواعد صواريخ إيرانية على طول الضفة الغربية للفرات، بحيث نصب "لواء فاطميون" الأفغاني على سبيل المثال أكثر من 12 صاروخاً باتجاه حقل العمر.
الحرس الثوري الإيراني يتحرك أيضاً من دمشق باتجاه دير الزور السوري وتحديداً مطار دير الزور لتدريب الفصائل المسلّحة والميليشيات الإيرانية من أجل الاستعداد لمواجهة الأميركيين والتحالف الدولي.
اذاً من الواضح أن العمق الاستراتيجي العربي في خطر شديد و أن الأمن القومي العربي في منطقة الشرق الأوسط والخليج تحت التهديد الإيراني المتصاعد والمتنامي، فيما السؤال يبقى عن كيفية مواجهتهم التهديد الداهم من طهران وميليشياتها وفصائلها العراقية والسورية.لا يجب التوقف عند اعتبار إسرائيل أيضاً متضررة جداً وأمنها مهدد لتبرير عدم التحرّك للدفاع عن العمق القومي العربي، فتَلاقي المصالح الآنية بين العرب وإسرائيل لم يعد من الأمور التي تبرر غياباً عربياً عن مواجهة مصير الدول العربية المحتلة من إيران، ما يتطلب موقفاً وخطة تدخل واضحة المعالم، فالعرب أمام خيار من إثنين : إما مهادنة إيران وبالتالي تركها تتمدد وتقضم الدول العربية المحتلة منها ولا نفع عندها اللجوء الى لغة الحوار والديبلوماسية لأن أي حوار مع طهران يساهم في إطالة أمد التهديد الإيراني على المنطقة كما أنه يمكّن الإيرانيين من كسب الوقت للوصول الى القنبلة النووية خصوصاً في حال توقيع الاتفاقية النووية، وإما المواجهة التي لها أكثر من وجه ومن طريقة من بينها المواجهة العسكرية، علماً بأن في المنطقة قيادة مركزية مشتركة تشارك فيها حتى إسرائيل الى جانب دول المنطقة والولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي فإن البنى التحتية العسكرية والإستخباراتية "شغالة" وجاهزة وما المطلوب سوى الإقدام.
انعقدت منذ أيام قمة عربية تشاورية لم تنل نصيباً وافراً من التغطية الإعلامية في منطقة العلمين في مصر، وضمت الى جانب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة وملك الأردن عبدالله الثاني، في محاولة لضبط الخطر الإيراني في ظل اقتراب الأمور من الانفجار والتصعيد الخطيرين، في ظل سيناريوهات تفجيرية ستؤدي الى حرب إقليمية طاحنة، علماً بأن الدول المجتمعة لدى بعضها تحركات ديبلوماسية مع إيران من أجل محاولة التقليل من أخطارها وشرورها وضبط إيقاعها المتفلّت.
إنطلاقاً من هنا، أرسلت دولة الامارات سفيرها الى طهران مع ملاحظة إيجابيات في الحوار السعودي - الإيراني، وهذه المؤشرات إن دلّت على شيء فعلى تغليب العرب الى الآن خيار الديبلوماسية على أي خيار آخر خصوصاً في موازاة التهديد الإسرائيلي بالخيار العسكري ضد إيران، لأن العرب الى الآن يعلمون أن أي حرب ستقع ستكون دول المنطقة مسرحها من فلسطين الى سوريا الى لبنان الى العراق الى منطقة الخليج، وبالتالي ومن الناحية الجيو سياسية، ستكون الدول العربية مهددة بأمنها القومي واستقرارها في وقت تتجه فيه كل الأنظار والاهتمامات في الخليج نحو التنمية والتطوير وإرساء قواعد الإستقرار في المنطقة الخليجية والعربية.
الأهم أن العرب يريدون قطع الطريق أمام الأميركيين في اتصالاتهم مع إيران بعدم الإتكال على واشنطن من أجل ضمان حقوقهم كحلفاء مفترضين لها، بعدما فقدان الثقة بالإدارة الديمقراطية للرئيس جو بايدن، ما سرّع في خطوات العرب من أجل خلق سياستهم الخاصة تُجاه طهران والالتفاف على مخاطر الاتفاق النووي العتيد.
العلاقات العربية- الإيرانية اذاً على المحك بموازاة السباق المحموم بين التصعيد العسكري وخيار الحرب والمساعي الديبلوماسية التي تُبذل حتى اللحظة الأخيرة قبل التوقيع على الاتفاق، وكذلك العلاقات العربية- الأميركية هي أيضاً على المحك، ولن تبقى كما هي قبل الاتفاق بعد توقيعه،فإيران بعد الاتفاق ستكون أقوى وستتعاطى مع دول المنطقة بشعور فائض القوة التي اكتسبتها من الاتفاق النووي وتدفق الأموال الطائلة الى صناديقها، وأميركا بعد الاتفاق النووي ستكون قد أنجزت اتفاقاً يقوي الديمقراطيين في الداخل الأميركي ويضمن الطاقة لأوروبا والاستثمارات الإقتصادية والمالية والتجارية مع الأسواق الإيرانية.
البلدان المؤشران للمرحلة المقبلة من توقيع الاتفاق هما العراق ولبنان، حيث المشهدية السياسية للأزمتين متلازمتان في دلالاتهما الى عمق المأزق الإقليمي مع إيران.ففي كلا البلدين لا قدرة على حل المشاكل السياسية الداخلية ...والسبب عدم وجود قيادات أو أشخاص أو جهات فاعلة قادرة على طرح حلول ورسم خريطة طريق وطنية للخروج من الأزمة وجمع الكل حول طاولة حل لا طاولة مناورات ... وفي كلي البلدين، هناك انقسامات عمودية وأفقية، مع فارق أنه في العراق الكتل الشيعية متفرقة ومتناقضة مع بعضها البعض بنفس قوة تفرق القوى السيادية في لبنان ضد القوى غير السيادية الموالية لإيران ... وفي البلدين أزمة ثقة بين الأطراف المتصارعة حيث كل طرف يعتقد أن الآخر سيلغيه، ما يضفي على المعارك السياسية الطابع الوجودي والصراع على البقاء ... حتى أن الحلول المطروحة كما في العراق بإعادة الانتخابات وفي لبنان بالانتخابات الرئاسية المقبلة لن تكون الا موقتة وتأجيل للحل الجذري في كلي البلدين لأن في العراق الانتخابات المبكرة لن تأتي بجديد في ظل موازين القوى المتخلخل والضغط الإيراني الموجود عبر أحزابه وميليشياته الموالية، والانتخابات الرئاسية وإن أتت برئيس سيادي الا أنه لن يُسمح له بالعمل وسيُصار الى تطويقه أو في احتمال آخر أن يذهب لبنان الى أزمة حكم مفتوحة بفعل عدم السماح بوصول رجل طهران ثاني الى سدة الرئاسة الأولى.
الأيام المقبلة ستكون حافلة بالتطورات النوعية، فيما يبقى الاحتمال الأكبر أن يُوقّع الاتفاق وتحتفظ إسرائيل في حقها بمتابعة هجماتها على القواعد الإيرانية في سوريا للإستعاضة عن حرب واسعة شاملة مع إيران، في وقت سيتابع فيه العرب مساعيهم مع إيران لحلول ديبلوماسية، مع أن باب الديبلوماسية لن يكون بلا حدود زمنية.