كتب الأب د. ميخائيل روحانا
هل الجمهورية القديمة الى زوال؟؟ هل سنفقد لبنان السيادي؟ وهل حزب الله مؤمن بلبنان كوطن؟
لنكون دقيقين مع التاريخ، وباختصار، جمهورية 1943 (القديمة)، سقطت على مراحل:
1- مع قبول حكامها سنة 1948 بالفلسطينيين كلاجئين في لبنان، إلى أجل غير مسمى، وتأمين كل الأراضي اللازمة لهم مع ما تبع كل هذا من اغتيالات، والقبول بالمبالغ الهائلة التي سكبت، للخاص وللعام، للرضى عن وجودهم المسالم (تماما كما يحدث اليوم مع النازحين السوريين).
2- اتفاق القاهرة (1969) الذي أسس لوجود الفلسطينيين المسلح بقيادة "فتح" كدولة يسارية المنحى ضمن دولة ديمقراطية لبرالية،
3- الحرب اللبنانية 1975، بالحرب التي هدفت إلى قيام الميليشيات المسيحية مكان الدولة باستعادة سيادة للدولة من يد "ياسر عرفات"، والحفاظ على دور المسيحيين فيه وبخاصة رئاسة الجمهورية للموارنة، فانقسم الجيش وتشرذم لبنان وسقط بين يدي سلطات الأمر الواقع، أي تقريبا ما كان عليه في سنة 1860، وكثرت الإبادات، فتمت الاستعانة بتدخل الإخوان العرب الغيارى على سلامة الفلسطينيين، ثم تحولت الحماية والحضانة لمصلحة الشقيقة سوريا تحت تسمية "حماية المسيحيين"، فكان ما يشبه الاحتلال السوري لقسم كبير منه، لاقتها فيه إسرائيل لحماية مصالحها باحتلال الجنوب لغاية قضاء جزين. وما تبقى من لبنان الدولة تقاسمته ميليشيات الأمر الواقع المارونية الهادفة إلى تبوؤ رئاسة الجمهورية. وابتدأ التفتيش عما تبقى من دولة وجمهورية، وذلك لغاية 1989.
4- اتفاق الطائف 1989 الذي تم برعاية المملكة السعودية الممثلة بالشهيد الرئيس رفيق الحريري من جهة، والدولة السورية الماسكة لأوسع مساحة أرض من لبنان، من جهة أخرى، ممثلة بقائد ميداني، مركزه عنجر، يتحكم بمن سلحتهم دولته ودعمتهم طوال سنين الحرب اللبنانية، وكانت محاولة لاستعادة الدولة بحسب الأعراف الدولية، وجمع الشمل. فوُضع دستور جديد نظّم العلاقة بين سلطات الأمر الواقع تحت تسميت "الإنماء المتوازن" (عافيا عن كل جرائم الحرب المنتهية)، وتمت المحاصصة بكل دقة (مع احترام حصة الأمن السوري أولا) تحت التهويل بالمساس بالسلم الأهلي ريثما تكون قد تمت إعادة بناء لبنان وما يتضمن ذلك من تقاسم مليارات الدولارات. فسقطت كليا دولة القانون والمؤسسات. لم تكن من مصلحة أحد. وحل مكانها ما نحن عليه اليوم من "إمارات" الأمر الواقع نفسها، بخاصة بعد اغتيال الرئيس الحريري سنة 2005، كل منها مستند إلى مليارات الدولارات، وسلاح في الداخل، ودول من الخارج ومنها إيران.
نعم، بخريطة الطريق هذه، ولو اختزالية، انتهت جمهورية ال 100 سنة (1920 - 2020)، ولكن، وللأسف انتهت بانفجارين مدوّيين: أولا انفجار مرفأ بيروت، (4 آب 2020)، والثاني انفجار القضاء في أم الشرائع بيروت (25 كانون الثاني 2023). وهنا يأتي سؤالك عن حزب الله واعترافه بلبنان كدولة سيدة مستقلة.
وأول ما يأتي على ذهني هو التوسع بالسؤال: هل مِن أمراء الحرب الحاليين مَن هو مقتنع بضرورة عودة دولة القانون والمؤسسات؟ يبدو أنه من الصعب جدا الإجابة بنعم على هذا السؤال. بنظري كواضع لرؤية "الجمهورية الخامسة" ليس فقط للبنان إنما لكل دولة تشبه بتعقيداتها لبنان، من سابع المستحيلات إعادة قيام دولة وجمهورية انقلب الدهر عليها وسحقها التاريخ بسبب جمود دساتيرها واحتكار السلطة فيها من طوائفيين وإقطاعيات بات لبعضها في حكم الأمر الواقع أقله من سنة 1860. ألا يقول المثل: "من جرّب المجرب كان عقله مخرب".
وأعود لأجيب، بدقة أكثر، على السؤال عن "إيمان" "حزب الله" بلبنان كوطن، هو القوة الأكثر حداثة والأكثر تنظيما وتمويلا وعددا وعتادا وعقيدة، والذي حرر لبنان سنة 2000 ويؤمن توازن الرعب مع العدو الإسرائيلي، بموجب المقولة التاريخية "إن أردت السلم استعد للحرب". وهو الذي من عقائده أن لبنان قوي بقوته وليس بضعفه… استخلص مما كتبت أعلاه ما يلي: كي "يقتنع" إنسانٌ أو مجموعة بوطن ما، عليه أولا ان يلمس بقناعته بأن هذا الوطن هو بالفعل وطن يوحي بنهائيةٍ ما لكينونته، كما يوحي بالأمان والثقة بالمستقبل والاستمرارية. مَن مِن مكونات لبنان مقتنع بهذا؟ أليس الجميع اليوم يبحث عن تركيبةٍ للبنان توحي له بالثقة التي يرجوها لخصوصيات إنسانه؟ الفدرالية؟ التقسيم؟ ولاية الفقيه، ولاية أمريكية، ولاية فرنسية إلخ. ولما لا، ولاية سعودية أو قطرية أو سورية؟ والحبل على الجرار. ناهيك اليوم عن الإفلاس والتجويع والتفتيش عمن "يعطي المال"، ومن يعطي يأمر من يعطيه (Celui qui donne, ordonne). الجميع، وليس اليوم فقط، إنما من يوم اتفاق القاهرة، فاقد للثقة بهذا الوطن، وهذا ما يناسب كل عدو، وأي عدوٍ كان، دُوَلا أو مافيات دولية أو شركات قابضة؟ فكيف بنا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تمكين مليوني نازح سوري للبقاء في لبنان، وقد بات لهم عشر سنوات؟ هل ستطالب لهم الأمم المتحدة بالهوية اللبنانية عملا بحقوق الإنسان؟ ألا يشغل البال هذا الأمر لجهة تغيير هوية لبنان الحضارية وتوازنه الطائفي إذا ما استمر دستوره قائما على الطائفية السياسية؟ هل اللبنانيون متفقون على عدو واحد مشترك يوحدون الرأي والرؤية ضده؟ أقله آفة الادعاء والتشاوف على بعض، والتسابق الدموي على السلطة والمال وعبادة أصنام السياسيين المحنطين بالدولارات؟ هل هذا يطمئن كي تقوى الثقة والقناعة بمستقبل وطن؟
هذا مخيف، نعم، ولكن مَن مِن دول العالم كافة ليست بخائفة على مصيرها اليوم؟ العالم كله على كف عفريت أليس كذلك؟ بالرغم من كل هذا، علينا ألا نخاف، "فالخوف أسوأ نصيح"، بل نلجأ للدعوة إلى العودة للحكمة، لا بل إلى رأس الحكمة الذي هو "مخافة الله".
انا لا أؤمن بالدول ولا يجوز استعمال كلمة "نؤمن" هنا. أنا أؤمن بالله وبعده بقدرات الإنسان شبيهه. وأؤكد بان شعب لبنان لا يزال، على ما هو عليه، أقدر الشعوب على تجديد وجه بلاده والقيام بوطن يحسد عليه، لا يشبه إلا ذاته، ومرجع لكل التشابيه. أللهم، كل المطلوب هو إلغاء الخوف من الآخر، التطلع إلى الداخل ورفض ازدواجية الانتماء، والقناعة بضرورة الانتقال من نظرية العيش المشترك إلى نظرية "التكاؤن". فإما أن نكون سوية "لبنانيين أولا"، متحدين متراصين في السراء والضراء، أو لا نكون، ولا يكون لبنان الدولة. ويبقى لبنان الجبل الأبيض، لبنان جنة الله على الأرض، منبت الأرز والأرض المقدسة، يبقى لمن سيكونون أهلا له ولفرادته المعترف بها دوليا. ومن الأكيد انها ليست الأديان تخلفنا ببعضنا وتقسمنا، إنما الأنانيات، والنرجسيات، وعبادة المال عند الحكومات العميقة المعادية للقيم الإنسانية. وهذا ما تحدُّ منه كثيرا رؤية "الجمهورية الخامسة" القائمة على المساواة والعدالة والتكاؤن. عليه أدعو من خلالكم اللبنانيين إلى "كلمة سواء"، إلى مؤتمر تأسيسي يجعل منا قبلة أنظار العالم.
