أحيي رئيس حزب القوات اللبنانية الناسك والمخطط والمفكر، هذا ما يجب فعله، إذ ان الكتاب المقدس يقول: الويل لشعب ليس فيه من يفكر”، موقف أطلقه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي خلال إستقباله وفداً قواتياً معايداً في الميلاد المجيد عصر السبت 25/12/2021. النسك نمط عيش يرتكز على التمرّس في الزهد والعزلة والتأمل والقراءة والصلاة والعمل بإنتظام يومي. يظن بعضهم أن الناسك يهرب من العالم والأصح انه يبتعد جسدياً عن العالم ليكون في قلبه عبر تكريس وقته للخدمة من خلال الصلاة المكثفة الى الله من أجل العالم والإرشاد متى كان متاحاً. أما السياسة، فثمة خلاف منذ فجر التاريخ على تعريفها المتأرجح بين كفي الخير العام والخير الخاص ولو إقتضى شراً عاماً. فعلى سبيل المثال، هي تُعنى بالأفعال النبيلة وفق أرسطو وبصناعة الخير العام وفق ابن خلدون، فيما هدف السياسة ليس الأخلاق وإنما النجاح والفعالية و”الغاية تبرر الوسيلة” وفق مكيافيلي. فهل من نساك في عالم السياسة أما أن الحياة النسكية والحياة السياسية خطان لا يلتقيان؟! ولماذا تكاد تكون صفة “الناسك” ملاصقة لسمير جعجع منذ شبابه في القطارة مروراً بزنزانة الوزارة وصولاً الى مشيبه في معراب؟!للوهلة الاولى، وفي ظل الانهيار الشامل وغير المسبوق الذي يعيشه لبنان جراء ممارسة الطبقة السياسية الحاكمة منذ ولادة “جمهورية الطائف” من جهة، وبسبب كثرة مريدي مكيافيلي في لبناننا اليوم وتباهيهم السافر أن السياسة “فن الممكن” تحت شعار “الواقعية السياسية” من جهة أخرى، قد يكون الجواب البديهي والفوري ألا نساك في السياسة.في قراءة بعيدة عن الغوغائية والشعبوية وسطوة الواقع المرير اليوم، سمير جعجع قد يكون من القلة القليلة جداً التي تتمتع بصفات “النسك السياسي”.
من هذه الصفات:* الزهد بـ”الأنا” لمصلحة “الجماعة” وهذا لا يعني القضاء على الطموح والازدراء بالمناصب بل السعي لكسبها بهدف تسخيرها لمصلحة المشروع الأبعد. * العمل بانتظام وبشكل مرهق لساعات طوال وعدم هدر الوقت او الغرق في “المجاملات” او ثقافة “الصالونات السياسية” و “الديوانيات الشعبية” أي الاستقبالات الاسبوعية مثل بعض السياسيين التي لا تتعدى إطار السلام والصورة أو “فشة الخلق” من دون اي جدول أعمال واضح وآليات علمية مضبوطة للقاء. * الانقطاع عن الظهور لفترات والانكباب على التخطيط والتقييم والتفكير والشغف المستدام بالقراءة والمعرفة. *
التواضع والدماسة في اللقاءات والاحترام المطلق عبر الاصغاء الكامل لمن هم في ضيافته، فيما بعضهم يستخف بجالسيه فلا يخجل من قطع اجتماعه معهم مراراً لأسباب تافهة.ثلاث صومعات تنقل بينها جعجع في مسيرته طبعت شخصيته بهذا البعد النسكي: * دير القطارة حيث أسس ثكنة عام 1978 إحتضنت أولا المقاتلين الشماليين المهجرين من قراهم وراح تدريجياً يجذب اليه الشباب من مختلف المناطق المسيحية جراء إمتلاك الرؤية والمشروع الواضح المعالم ونمط عيشه البسيط الجماعي. فهو وإن إنكب على تنظيم القوى العسكرية بإحترافية لكن ذلك لم يكن على حساب الروح العائلية التي تجمعه برفاقه. فأثمر لاحقاً ما زرعه في القطارة وصوله الى قيادة “القوات اللبنانية” بمشروع سياسي وإجتماعي وإقتصادي ترجم فوراً على الارض إعادة تأهيل عسكرية ومعهداً لتخريج الضباط ومشاريع تعاضد اجتماعي من نقل مشترك الى عمليات قلب مفتوح ومشاريع تنمية زراعية، لكن هذا المشروع تعثّر مع وصول العماد عون الى السلطة عام 1988.* زنزانة في طابق ثالث تحت الارض في وزارة الدفاع في اليرزة بعد حلّ “القوات” ثم إعتقاله في 21/4/1994، حيث إختبر السجن الانفرادي لـ4114 يوماً وعاش بالمباشر حياة النساك وإنكبّ على صَهر الذات. خيّر بين “النظارة” و”الوزارة”، فإختار الاولى لأن ثمن الثانية التخلي عن قناعاته. نصح بالخروج من لبنان كي لا يعتقل، ففضل الاعتقال كي لا يترك شعبه تحت سيف الاضطهاد وينعم هو بمنفى باريسي رغيد كباقي الزعماء المسيحيين.* تلة معراب بعد العام 2005، هناك إحترف “النسكية” في العمل السياسي. فأجرى قراءة نقدية وإمتلك جرأة الاعتذار. فقدّم خلال قداس شهداء المقاومة اللبنانية في ملعب فؤاد شهاب في جونية في 21/9/2008 “بإسمه وباسم أجيال المقاومين جميعاً، شهداءَ وأحياءً، باعتذار عميق، صادق وكامل، عن كل جرح، أو أذية، أو خسارة، أو ضرر غير مبرر، تسبّبنا به، خلال أدائنا لواجباتنا الوطنية، طوال مرحلة الحرب الماضية”.كما ترفّع مراراً خلال مسيرة “14 آذار” عن جشع كثر من الحلفاء، فثابر وراكم ونجح بنقل حجم تمثيل “القوات” النيابي من 5 نواب عام 2005 الى 8 نواب عام 2009 الى 15 نائباً عام 2018 من دون منّة أو ودائع سياسية. لم يقع بتجربة “ربط النزاع” مع “حزب الله” أو الحج ّ الى سوريا، فحافظ على خطابه السيادي. أما أهم علامة نسك سياسي، يوم ترفّع عن الاحقاد وإبتعد عن العناد وإنتخب خصمه اللدود ميشال عون ولكن بناء على خارطة طريق إلتزم بها الأخير مباشرة عبر الشاشات تمثلت بإتفاقية معراب، لكنه سارع فور إنتخابه الى التبرؤ منها ولم ينفذ أي من بنودها الـ16. بالطبع سمير جعجع ليس بكامل لكنه يحمل بسيرته ومسيرته الكثير الكثير من النسك السياسي والقليل القليل من “بهرجة” معظم أهل السياسة عندنا.