في ضوء الأزمات الإقليمية المتنقّلة في الجوار الروسي حديثاً وبعدما انسحبت موسكو من سوريا عسكرياً، وسلّمت إيران زمام البلد وغضت الطرف عن الهجمات الإسرائيلية المتتالية على سوريا ومطاراتها، وفي ظل فشل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في استنهاض دعمٍ صيني قوي له خلال سماركاند الأخيرة، يُطرح السؤال الجيو سياسي الكبير عما اذا كان ما حصل مؤخراً بين أرمينيا وأذربيجان، ومنذ أيام والى الآن بين قرغيزستان وطاجكستان، هو نذير تراجع التأثير الروسي لا بل النفوذ الروسي الذي أضعفته حرب أوكرانيا ؟الصراعات تشتعل في الجوار الروسي لدى الجمهوريات الحليفة والصديقة للرئيس بوتين واحدة تلو الأخرى فيما ظهرت مجدداً الى العلن أزمة مسلمي الإيغور المضطَهدين من بيجين، فيما تايوان تواجه اعتداءات الصين اليومية، بما يشبه سيناريو إطباق بمراحل على النفوذين الصيني والروسي في مناطق خاصرتهم الموجعة.
تلك الصراعات كان آخرها بين قرغيزستان وطاجكستان، إذ وبعد أيام قليلة فقط من وقوع اشتباكات حدودية عنيفة بين أرمينيا وآذربيجان، اندلعت اشتباكات مماثلة على الحدود ما بين قرغيزستان وطاجيكستان هذه المرة، حيث تبادل البلدان يوم الجمعة الفائت الاتهامات باستخدام الأسلحة الثقيلة مثل الدبابات وقذائف المورتر في تصعيد للصراع الحدودي، الذي أدى لمقتل 3 أشخاص وإصابة 27 منذ اندلاع القتال قبل يومين..اليوم أعلنت قرغيزيا حالة الطوارئ في منطقة باتكين الحدودية بعد اشتباكات عنيفة مع طاجكستان، فيما أعلنت وزارة الطوارئ التابعة لها عن إجلاء 136 ألف شخص من القرى والبلدات المحاذية للحدود مع طاجكستان ووقوع 24 قتيلاً و121 جريحاً من جراء الاشتباكات الحدودية مع قرغيزيا، هذه الاشتباكات رغم أنها ليست جديدة بحكم تكررها بشكل شبه منتظم، منذ استقلال الدولتين إثر انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991، لكن توقيتها هذه المرة ربما يحمل دلالات تجعلها أبعد من مجرد مناوشات حدودية معتادة، وأنها قد تندرج في سياق تصاعد الشدّ والجذب بين القوى الدولية المتصارعة في الأزمة الأوكرانية.
فالحرب الأوكرانية، بما تنطوي عليه من تعقيدات وتداخل سرديات التاريخ المضادة بالحاضر، فتحت أبواب تصاعد نزاعات الحدود المزمنة التي تتحول أحياناً الى صراعات وجود تهدّد دولاً وكيانات سياسية بأكملها، ولا سيما في الحدائق الخلفية لروسيا والتي كانت ضمن الفضاء السوفييتي كالقوقاز وآسيا الوسطى.ففي قراءة استراتيجية وجيو سياسية لخريطة دول الجوار الروسي، يمكن الجزم أن جذور هذه الصراعات تعود الى الحقبة السوفياتية حين كان رسم الحدود الإدارية للأقاليم يتم من دون مراعاة التشكيلة الإثنية والعرقية لها، وخير مثال هو النتؤة الأرمينية ناغورنو كاراباخ في أذربيجان، وإقليم ترانسنيستريا ذي الغالبية الروسية في مولدوفا، ومنطقة دونباس وشبه جزيرة القرم بأوكرانيا، لكنها كانت صراعات كامنة في ظل وجود سلطة مركزية قوية في موسكو،. ومع تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991 بدأت الحروب الأهلية والأزمات تنفجر على وقع ذلك، لدرجة أن روسيا نفسها شهدت تفجّر نزعة انفصالية حادة في جمهورية الشيشان".
من جهته، يحتوي القانون الدولي على قنبلة موقوتة في معالجته لمثل هذه القضايا الحساسة، فهو يشدد على حق الشعوب في تقرير مصيرها من جهة أولى، لكنه يضمن وحدة الدول من جهة ثانية، وهكذا تضيع البوصلة وتبقى صراعات من هذا القبيل مشتعلة ويسقط ضحيتها مئات الآلاف.وما يزيد من خطروة ما يحصل أن روسيا غير قادرة الآن على لعب دور "رجل الإطفاء" بفاعلية لإخماد هذه الحرائق في محيطها، بسبب انشغالها بالعملية العسكرية في أوكرانيا، وهو ما زاد من ثقة اللاعبين الإقليميين في حدائقها الخلفية ورفع سقف طموحاتهم، ما يشجع "لوبيات" غربية في دول الاتحاد السوفياتي السابق على خلق حزام من عدم الاستقرار حول روسيا في إطار الحرب المفتوحة بين روسيا والغرب.وبالعودة لجذور الخلاف بين قرغيزستان وطاجيكستان، فهو فقط صراع على نحو ألف كيلومتر تم ترسيم 70 بالمئة منها والاتفاق عليها، لكن النسبة المتبقية وهي كبيرة وتبلغ 30 في المئة والتي لم تخضع للترسيم والتراضي، فهي محط خلاف مستمر يتسبب بتكرار مثل هذه الإشتباكات العسكرية بين الطرفين بشكل دوري.الحرب الروسية في أوكرانيا أوقدت الأزمات المركّبة والمزمنة حول العالم حتى تلك الخامدة منها، فغالبية الجمهوريات المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي السابق تعاني من مشكلات حدودية "عويصة" واضطراب حاد في العلاقات السياسية وانعكاساتها الأمنية والاقتصادية، فيما الدور الأممي إما غائب وإما غير فعال، ففي نظرة جيو سياسية الى خريطة قوس الأزمات نلاحظ أن المشروع البري بين روسيا وأذربيجان وإيران والهند، قد منح باكو ما يمكن وصفه بضوء أخضر غير مباشر لاستخدام القوة لحل نزاعها مع أرمينيا حول إقليم ناغورنو كاراباخ، أما الخلاف بين طاجيكستان وقرغيزيستان فهو مزمن حيث تتكرر الصراعات الحدودية بينهما بشكل شبه دوري، خصوصاً مع غياب آلية دقيقة وفعالة لإدارة قضية المياه العابرة للحدود بين قيرغيزستان وطاجيكستان وفي منطقة آسيا الوسطى بشكل عام، وخصوصاً مع أوزبكستان التي تتقاسم مع الدولتين وادي فرغانة الخصيب الذي يشكل سلة الغذاء لهذه الدول الثلاث".والصراعات تلك تأتي في وقت لم تعد الهيمنة للدول الكبرى مؤثرة في ظل انفراط عقد التفاهم الدولي وارتفاع مؤشرات الصراع بينها، مما أتاح للدول المرتبطة باتفاقيات وتحالفات المرونة الكافية للمناورة بعقد اتفاقيات جانبية، كما هي الحال مع الهند مثلاً التي تُعد حليفاً تقليدياً للولايات المتحدة الأميركية، ولكنها لاعب فاعل في الساحة الآسيوية ومشارك في محافل ومنظمات ليست بالضرورة متناغمة مع رغبات أميركا ومصالحها.
فالمشهد الإقليمي المعطوف على التوتر الدولي المستعر من بوابة أوكرانيا شجع على محاولات تصفية الحسابات بين بشكيك ودوشنبه وهو يرتبط مباشرةً باضطراب علاقات القوى الدولية الكبرى الحاد على وقع أزمات مثل أوكرانيا وتايوان".فالصراعات الدولية تحيي بشكل أو بآخر الصراعات الحدودية التاريخية بين دول الكتلة السوفياتية السابقة وهي بالدرجة الأولى بسبب عدم ترسيم الحدود بين تلك الدول بشكل واضح ومنصف، وعدم تبلور دور أممي كما هو مطلوب لمعالجة ولجم هذه الصراعات الحدودية المزمنة على شكل بعثات مراقبة دولية مثلاً.
موسكو وبخاصة الرئيس فلاديمير بوتين هو أكبر المتضررين مما يحصل بين دول جواره المفترض أن تكون ملاذاً آمناً يحمي ظهره في مواجهاته مع الغرب، وقد سعى بالطبع لتطويق أي تصاعد لهذه المناوشات التي حدثت بين الجيشين القرغيزي والطاجيكي، عبر اتصالاته المباشرة على أعلى المستويات مع زعيمي البلدين، خصوصاً وأنهما مشاركان في قمة منظمة شنغهاي المنعقدة في أوزبكستان.والمفارقة هنا أن هذه الاشتباكات الحدودية أتت في الوقت الذي يحضر فيه الرئيس القرغيزي صادر جاباروف، ونظيره الطاجيكي إمام علي رحمان، قمة إقليمية للأمن والتعاون في أوزبكستان.
تتكرر الاشتباكات عبر الحدود بين الجمهوريتين السابقتين في الاتحاد السوفياتي، لكنها عادة ما تهدأ سريعاً، وهذا الواقع لا يخفي حقيقة هشاشة المعادلات المتحكّمة بدول الجوار الروسي وبالخطر الذي تشكله قنابلها الموقوتة في أي وقت من دون تجاهل إمكانية أن تؤدي، كما في العام الماضي، إلى وقوع حرب شاملة كما حصل بين أرمينيا وأذربيجان.وتبقى الإشارة الى أن تلك الدول الحليفة لموسكو تستضيف قواعد عسكرية روسية وتربطهما علاقات وثيقة مع موسكو التي تدعو من دون أي خيار آخر مراراً وتكراراً إلى وقف الأعمال القتالية،فالرئيس بوتين الذي طبخ السمّ لأوكرانيا والأوروبيين يبدو أنه، وبموازاة محاولات اغتياله الجسدية، يحاول تجنّب تجرّع بعضا من هذا السم في محيطه الاستراتيجي المباشر، وقد فتح تصرفه في أوكرانيا شهية الدول الحليفة له على غزو بعضها بعضاً لحل أزماتها الحدودية المتراكمة، وقد لا يكون الرئيس بوتين جاهلاً بأن مثل هذه الخروق القاتلة قد تشكل طرقاً ناجعةً لأعدائه للنيل منه عبر جواره.