يبدو أن تداعيات حرب غزة لم تبدأ فصولها الإقليمية والعربية بعد بالشكل المتوقّع، ويبدو أيضاً، ومن قراءة جيو سياسية لوضعية جمهورية مصر العربية ونظام رئيسها عبد الفتاح السيسي، أن هذا الأخير في عين العاصفة و هناك مؤامرة عليه.
الأردن ومصر تحت وطأة الضغوط المباشرة
مصر أمام خياري التوطين أو إدارة قطاع غزة
لقد سبق وأشرنا في أكثر من مقال حول ما يحصل في غزة وتداعياته على المنطقة بأن هناك بلدين عربيين مهدّدين بالمباشر نتيجة حرب غزة : الأردن ومصر التي تتعرّض راهناً
للضغط عليها، إذ أن الضغط على الرئيس عبد الفتاح السيسي يزداد تصاعداً انطلاقاً من الجغرافيا من جهة، ومن الاستهداف السياسي لرئيسٍ ونظامٍ رفضَ نهج الحكم الإخواني أيام الرئيس المصري السابق محمد مرسي حين وافق الأخير على خطة إسرائيلية- أميركية بتوطين الفلسطينيين في سيناء، علماً أن الصحافة الإسرائيلية تركّز في مواقفها وعلى صفحاتها على إتمام التوطين الفلسطيني لشعب غزة في سيناء، الأمر الذي ردّ عليه الرئيس السيسي بغاية الدقة باقتراح على إسرائيل توطينهم في صحراء النقب بدل سيناء.
وكخطة بديلة، بدأ التركيز منذ ساعات في إسرائيل، وعبر وسائل إعلامها، على خطة بديلة تقضي بأن تتولى القاهرة إدارة قطاع غزة مباشرةً، هذه تلك الخطة البديلة التي تُعتبر بمثابة بثّ “السمّ في العسل” تضع نظام الرئيس السيسي بين خيارين أحلاهما مرّ : إما التوطين في سيناء وإما ادارة قطاع غزة مباشرة .
فلسطينيو غزة بين العرش الهاشمي والإدارة المصرية
إنه الجزء المصري من المخطط الأساسي الذي حيكت فصوله أيام الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عندما اتخذ مبادرة “صفقة القرن” وأراد حل القضية الفلسطينية بنهجها الثنائي : إلحاق الضفة بالعرش الهاشمي من جهة ووضع غزة تحت الإدارة المصرية مقابل سلّة من الإغراءات والحوافز والإعفاءات والدعم المالي الضخم .
وكانت تلك الخطة في فكرتها الأولية تصبّ في صالح إسرائيل والإخوان المسلمين والولايات الأميركية منذ عهد الرئيس الأميركي الأسبق بارك أوباما، ما فسّر موافقة الرئيس المصري مرسي على التوطين في سيناء .
هل تتولّى السعودية إدارة القطاع مباشرةً؟
في الفترة الأخيرة، تم التداول عبر تصريحات ومواقف من كبار المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين بأن تتولّى المملكة العربية السعودية إدارة القطاع مباشرةً، لكن هذا الاقتراح لم يُكتب له النجاح أقله حتى الآن، نظراً لكون الرياض لم تطبّع مع إسرائيل بعد، رغم أن مثل هذا التطبيع لا يزال وارداً وممكناً، وقد يكون تسليم غزة للرياض جزءاً من صفقة لاحقة على طريق التطبيع أو الوعد به .
مطبّات إنتداب مصر لإدارة قطاع غزة
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو صرّح منذ أيام أنه لن يسمح للسلطة الفلسطينية بإدارة قطاع غزة لأنها سلطة ضعيفة، بحسب رأيه، ما سيمكّن “حماس” من الظهور مجدّداً في القطاع، فيما كتب
السفير الإسرائيلي السابق في مصر إسحاق ليفانون مقالاً في صحيفة “معاريف” الإسرائيلية إعتبر فيه أنه لا يجب أن يكون هناك تواصلاً بين إسرائيل وقطاع غزة، ما يوجب على مصر أن تحصل على انتداب القطاع تماماً كما الانتداب البريطاني والفرنسي في المنطقة في القرن الماضي، وذلك بإعطائها تفويضاً موقتاً بحيث تُشرف القاهرة خلال هذه الفترة على بناء غزة بمساعدة دولية.
هذا الاقتراح من السفير ليفانون يحمل في طياته أكثر من مطبّ كي لا نقول فخّ لمصر وتحديداً لنظام الرئيس السيسي:
تهجير فلسطينيي غزة الى سيناء شبه منتهٍ
- أولاً : إسرائيل باتت شبه متأكدة بأن تهجير فلسطينيي غزة الى سيناء شبه منتهٍ وعلى طريقه نحو الإقفال، مع أن الصحافة الإسرائيلية تتحدث عن تهديدات وضغوط هائلة تُمارس على الرئيس السيسي للموافقة، فيما الأخير لا يزال يرفض خطة التوطين في سيناء حتى الساعة .
مخاوف من إعادة تنظيم خلايا مسلّحة لزعزعة استقرار مصر
- ثانياً : تهجير الفلسطينيين من غزة الى سيناء سيضرب لا محالة الاستقرار والأمن القومي المصريَين لأكثر من سبب، ليس أقله دخول قواعد شعبية وقيادية من بين الشعب الغزاوي الى سيناء حيث يمكنهم إعادة تنظيم صفوفهم وخلاياهم وتلقّي مساعدة مباشرة من أخوان مصر للقيام بعمليات أمنية وانتقامية من نظام السيسي، تؤدي الى تهديد النظام والرئيس المصري “عدو الإخوان” المسلمين اللدود، ولسببٍ آخر وهو التوصّل من خلال خطة التهجير الى سيناء الى التصادم بين الفصائل الفلسطينية المنتقلة اليها مع الجيش المصري انطلاقاً من اتخاذ تلك الفصائل كما في جنوب لبنان أيام فتح لاند على سبيل المثال سيناء قاعدة انطلاق عمليات فدائية من الأراضي المصرية في سيناء ضد إسرائيل، ما قد يتسبّب بتصادم بين الجيشين المصري والإسرائيلي أيضاُ، فضلاً عن أسباب أخرى لا مجال لذكرها كلها في هذا المقال .
مرارة التجربة اللبنانية على أرض مصر
- ثالثاً : انطلاقاً من هذه الحسابات الجيو سياسية، يصرّ الرئيس السيسي على رفض خطة التوطين الفلسطيني في سيناء، فمصر تدعم المجهود الحربي للفصائل الفلسطينية من داخل قطاع غزة وليس انطلاقاً من أرضها، وهذه معادلة ثابتة للنظام المصري تعيد الى الأذهان مرارة التجربة اللبنانية حين وقعت الدولة اللبنانية في السبعينيات في فخّ السماح للفصائل الفلسطينية المقاوِمة باستباحة الجنوب اللبناني للانطلاق منه في عمليات ضد الأراضي المحتلة، فكان أن أدت هذه الاستباحة الى “وبال” سقطَ على رأس لبنان الدولة والشعب والاقتصاد وصلت الى حد اندلاع الحرب الأهلية عام ١٩٧٥ بحجة حرية العمل الفدائي الفلسطيني على الأراضي اللبنانية انطلاقاً من اتفاقية القاهرة المشؤومة.
الأشقاء الأردنيون كانوا أكثر حزمًا وحسماً واستدراكاً للخطر الفلسطيني المسلّح حين طردوا بالقوة الفصائل الفلسطينية في موقِعة ما اصطُلح على تسميتها “أيلول الأسود عام ١٩٧٠” حين أدرك جلالة الملك راحل الحسين بن طلال خطر الانفلات الفلسطيني المسلّح داخل الأردن، ما هدّد أمن واستقرار الأردن والعرش نفس،
وعلى ما يبدو فإن أشقاءنا في مصر استخلصوا العِبر من تجارب أشقائهم اللبنانيين والأردنيين، وهم يخوضون حالياً مواجهة لا ترحم نتيجة ضغوط دولية وإسرائيلية مستمرة من أجل غزة .
خطة ” فتح لاند” جديدة في سيناء
- رابعاً : عرضُ السفير الإسرائيلي ليفانون بأن تحكم مصر غزة بدل استقبال هجرة الفلسطينيين الى سيناء يُضمر عكس ما يظهر : فتسليم مصر إدارة قطاع غزة يعني ضمان مصر لأمن القطاع، وفي حال وجود أو تنامي أية فصائل فلسطينية مقاوِمة بعد حين داخل القطاع، سيُرتّب على السلطات الأمنية المصرية عبء قمعها ومنعها من القيام بأية عمليات ضد إسرائيل، وفي حال فشل السلطات المصرية في هذا المنع والقضاء عليها عندها تذهب الأمور باتجاه مواجهة بين تلك الفصائل وإسرائيل سيتخللها ضرب الأخيرة للقطاع، وبالتالي ضرب السلطات المصرية المتولية إدارته بما أنها تتولّى إدارة القطاع بكافة المؤسسات والمواقع الإدارية والتنظيمية والأمنية السيادية المصرية، التي ستصبح عُرضةً للقصف والعدوان الإسرائيلي فتُضطر مصر الى الردّ على الاعتداءات الإسرائيلية، وتدخل بذلك في حرب مع إسرائيل، عندها يمكن أن تحصل اضطرابات عنيفة في مصر مع إمكانية انتقالها الى دول المنطقة، خصوصاً مع احتمال ظهور تيار سيلقي باللائمة على الرئيس السيسي ونظامه لكونه أدخل مصر في متاهة حرب لا يريدها المصريون، ويقابله عندها تيار مصري معاكس يحرّض المصريين على الحكومة والجيش المصري ضد إسرائيل بما أن مراكز الحكم المصري للقطاع تتعرّض للعدوان، ما يوجب الردّ وعندها تكون مصر قد دخلت في دوامة “لها اول…وما إلها آخر” ويصبح حكم ونظام الرئيس السيسي على المحك داخلياً وخارجياً في غزة،
من هنا فإن الضغوط الجارية على مصر مرشحة للتفاقم أكثر فأكثر لإقناع النظام المصري بالسير في خطة التهجير أو حكم قطاع غزة، وهذه الضغوط قد تتناول فيما تتناوله فتح ملفات الإعفاءات المالية لمصر و سدّ النهضة و الحرب الأهلية في السودان و الإرهاب المتجدّد في سوريا وملف ليبيا وملف شرق المتوسط، كل هذا من أجل حمل القاهرة على القبول بإدارة قطاع غزة، وإلا استقبال الفلسطينيين في سيناء .
التداعيات الخبيثة لتسليم مصر إدارة قطاع غزة
-خامساً : ومن التداعيات الخبيثة لتسليم القطاع لمصر، وضع القاهرة في سلّم أولويات العداء للفصائل الفلسطينية في غزة وللعمل المقاوم في القطاع، فالسلطات المصرية لن تسمح لأية فصائل مقاوِمة في غزة بأن تكون أصلاً مسلّحة وموجودة في القطاع، ما سيؤدي الى تزايد النقمة والكراهية من الفلسطينيين المقاومين لحكومة مصر أو حاكم القطاع المصري وسلطاته، وهكذا تكون إسرائيل قد نجحت في وضع مصر في مواجهة مع المقاومة والشعب الفلسطيني بدلاً عنها لترتاح هي وتتورّط ومصر .
كل هذا ناهيك عن أن تسليم حكم غزة للنظام المصري ستترتّب عليه كلفة اقتصادية ضخمة لن تقوى مصر الغارقة في الديون والصعوبات الاقتصادية والمالية مع شعبها على أن تتحملها، ما سيؤدي الى مزيد من التقصير إما مع الشعب الغزاوي وإما المصري أو تجاه الإثنين معاً فتتصاعد النقمات الشعبية والأزمات الاجتماعية والاضطرابات المعيشية من هنا وهناك، ما سيؤدي الى تمرّد على الحكم المصري في قطاع غزة وسيكون مسلّحاً ما سيُفقد مصر مصداقيتها في إدارة القطاع بإظهارها بمظهر الفاشلة في إدارته أمام العالم، وصولاً الى إمكانية تمرّد المصريين أنفسهم على نظامهم من وطأة الضغوط الاقتصادية والمعيشية التي تصبح غير قابلة للاحتواء، وصولاً الى ثورة تُسقط النظام .
هكذا يصبح من البديهي اعتبار أن ما تقترحه إسرائيل على مصر بخصوص حكم القطاع هديةً مسمومةً ستؤدي آجلاً أم عاجلاً الى إسقاط نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وضرب استقرار وأمن مصر، سواء عبر هجرة الفلسطينيين الى سيناء أو عبر تسليمها إدارة القطاع .
مصر لن تقع في الفخ الذي تنصبه لها إسرائيل
إسرائيل لن تستطيع من جهتها، وبإقرارٍ من مسؤولين فيها وآخرهم السفير ليفانون حكم غزة، فيما مصر لن تقبل بحكم القطاع للأسباب التي أوردناها، وبالتالي لن يقع الرئيس السيسي في أي فخ من أفخاخ إسرائيل لأنه يدرك تماماً حجم خطورة أيٍ من الخيارَين على نظامه وعلى مصر في نهاية المطاف … لكن هل تتوصّل الاتصالات والحلقات التفاوضية الجارية في كواليس أروقة القرار الإقليمي والدولي الى صيغة معدّلة تعود بخيار إمساك السلطة الفلسطينية
للقطاع في مقابل ضمانات ليس أقلها تجديد قيادة السلطة واستبدال أبو مازن وفريقه بقيادة جديدة قوية قادرة ومدعومة سياسياً ومالياً وأمنياً واقتصادياً من الدول العربية والخليجية خصوصاً والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية؟
كل شيء ممكن… فلننتظر الإجابات في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة بعد انتهاء العمليات العسكرية في القطاع…