كتب جو رحال في "نداء الوطن":
أعادت الحرب الإسرائيلية على غزة تشكيل قواعد الاشتباك الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ودفعت الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في استراتيجيتها التي سادت منذ عهد باراك أوباما، والمبنية على مبدأ "الانكفاء الذكي" و"التوازن من الخارج". وبينما كانت واشنطن تتجه لتقليص حضورها العسكري والانصراف نحو شرق آسيا وأوكرانيا، فرضت تطورات غزة واقعًا مغايرًا: العودة إلى المنطقة، ولكن بشروط جديدة.
لم تكن العودة خيارًا حرًّا، بل استجابة قسرية لانكشاف محدودية السياسة الأميركية القائمة على "القيادة من الخلف"، التي قامت على تمكين الحلفاء المحليين من إدارة التوازنات. لكن اندلاع الحرب، وعجز الحلفاء الإقليميين عن ضبط الفوضى، أثبتا أن لا بديل عن الدور الأميركي المباشر، ولو بشكل انتقائي ومحسوب.
واشنطن عادت بثقلها السياسي والعسكري واللوجستي، أولًا عبر إدارة بايدن، ثم من خلال إدارة ترامب التي لم تكتف بالدعم لإسرائيل، بل ذهبت نحو مواجهة مباشرة مع إيران، في سابقة تخطّت سياسات الإدارات السابقة. وفي خلفية هذا الانخراط، بدا جليًا أن إسرائيل لم تكن تسعى فقط للرد على عملية حماس، بل لتحفيز تدخل أميركي أشمل، يعيد رسم المشهد الإقليمي ويمنع تمدد طهران في فراغ متزايد.
بموازاة ذلك، تصدّعت التحالفات التقليدية لواشنطن. دول الخليج حافظت على استقلالية متزايدة، رفضت الاصطفاف مع العقوبات الغربية على روسيا، وعززت علاقاتها مع الصين التي رعت اتفاقًا تاريخيًا بين الرياض وطهران في آذار 2023. هذا الواقع أكّد أن واشنطن لم تعد تحتكر التأثير في المنطقة، لكنها لا تزال القوة الوحيدة القادرة على التحرك الحاسم.
على المستوى الداخلي، واجهت واشنطن ضغطًا غير مسبوق من الرأي العام، خصوصًا بين الشباب واليسار التقدمي، احتجاجًا على الدعم غير المشروط لإسرائيل. الاحتجاجات الجامعية، وانتقادات أعضاء في الكونغرس، ومذكرات التوقيف الدولية بحق قادة إسرائيليين، كشفت هشاشة الخطاب الأميركي حول “"حقوق الإنسان" و"المعايير المزدوجة"، ووضعت الإدارة أمام تحدٍ أخلاقي واستراتيجي معقّد.
أما الصين وروسيا، فقد ظهرتا كقوى عاجزة عن فرض التهدئة أو لعب دور فعّال، ما منح واشنطن فرصة لاستعادة موقعها كقوة محورية لا غنى عنها، وإن من بوابة الضرورة لا الرغبة.
في المحصّلة، لم تعد واشنطن قادرة على الغياب الكامل، لكنها غير مستعدة للغرق مجددًا. لذلك تتجه اليوم نحو استراتيجية هجينة تقوم على "الانخراط الانتقائي" و"الردع المرن": تدخلات محسوبة، تحالفات وظيفية، قيادة من الأمام، لا من الظل.
هذا التحوّل لن يكون بلا تأثير على ملفات المنطقة. في لبنان مثلًا، قد يتحوّل الانخراط الأميركي إلى ورقة ضغط إضافية على "حزب الله"، أو إلى حافز لاستعادة التوازن السياسي في ظل انسداد الأفق الداخلي. وفي سوريا والعراق واليمن، ستكون واشنطن أمام اختبار مستمر: هل تواصل الإمساك بخيوط التهدئة، أم تعود إلى لعبة النفوذ الخشن؟
الشرق الأوسط اليوم ليس كما عرفته واشنطن في مطلع القرن. القوى تغيرت، المزاج الشعبي تحوّل، والشرعيات اهتزت. وما تسعى إليه الولايات المتحدة ليس قيادة شاملة، بل إدارة متوازنة لفوضى بلا منتصرين.