محطات كثيرة في مسيرة الانسان، ومهما بلغت أهميتها، قد تندثر مفاعيلها بفعل وطأة الظروف ومرور الزمن. لكن قلّة قليلة جداً من هذه المحطات تكون مفاعيلها مستدامة لأنها تتخطى أطار الزمان والمكان، فتطبع الانسان وتنبع منه في آن. هذه هي علاقة 21 نيسان 1994 وسمير جعجع، علاقة تفاعلية ظهّرت جوانب كامنة فيه - وتكاد تنقرض في الوسط السياسي - فصقلتها وطبعت بها هويته.
من عرف "الشيف" سمير جعجع في بدايته الشمالية ومن واكب إنطلاقته القيادية من دير القطارة وفق رؤية ومشروع وهدف تلمّس عن كثب ثلاثية الايمان والالتزام والصلابة الكامنة فيه الى جانب النهم في سبر أغوار المعرفة والقدرة التنظيمية. كما أدرك ان الاحترافية تلازم خيارات جعجع الذي يدرك تطلبها حتمية التفرّغ، من هنا حين قرّر تكريس حياته لـ"القضية" لم ينتظر إنتهاء سنواته الجامعية ولم يسأل عن المستقبل العلمي الذي كان يخطط له. و"القضية" مع "أل" التعريف تعني الحفاظ على الارث التراكمي للجماعة التي إعتنقت حرية المعتقد والعيش بكرامة في مسيرة مستدامة منذ مئات السنين مجبولة بالالم والاضطهاد والدم والدموع.
إلا أن 21 نيسان 1994 وما تبعها من 4114 يوماً في سجن إنفرادي تحت ثالث أرض ظهّرت هذا السمير جعجع للملأ - وليس فقط لمريديه - وذلك بغض النظر عن من أراد البقاء أسير الاحكام المسبقة أو متقوقعاً في احقاده الدفينة.
ظهّرت إيمان سمير جعجع بالقضية - بغض النظر إن إتفق أو إختلف المرء معه عليها - وثورته على الموروثات الوثنية التي تسللت اليها خصوصاً ومن تقليد وإقطاع ( وإن بنسخة جديدة أفرزتها الحرب) وامثال شعبية كـ "الايد لي ما فيك عليها بوسها ودعي عليها بالكسر"، "مين ما اخد امي بيصير عمي" و" ألف كلمة جبان ولا كلمة الله يرحمو".
ظهّرت إلتزام سمير جعجع بمجتمعه وإرتباطه اللصيق برفاقه. فهو رفض النصائح التي اسديت اليه بالرحيل الى الخارج والعيش مع زوجته حياة رغيدة - وإن في المنفى - رغم إدراكه السوداوية القاتمة التي كانت قادمة. هو قال "يسواني ما يسواكن" وهم لم يتفاجأوا بموقفه وهو الذي عاش بينهم في الثكنات وعلى الجبهات وسار أمامهم في ساحات المعارك.
ظهّرت صلابة سمير جعجع الذي لم يضعف امام السجن الانفرادي وما رافقه من ضغوط وعذابات او أمام الصفقات التي عرضت عليه داخل زنزانة وزارة الدفاع. صلابة في الحق والمعرفة، حيث ابهر الجميع خلال جلسات محاكماته بأجوبة ومرافعات إرتجالية دام بعضها اكثر من ساعة محكمة الفقه القانوني والوضوح السياسي وترك انبهاراً لدى الخصوم قبل المناصرين.
اليوم، يتنطح كثر من المغرضين في التكهن عن مواقف جعجع من الاستحقاق الرئاسي والقول إنها ستكون غبّ طلب حلفائه وسيساهم بإيصال مرشح "الثنائي" رئيس تيار "المرده" النائب السابق سليمان فرنجية متى خرج الدخان الابيض من حلفائه بهدف تضليل الرأي العام أو تبرير بعضهم لأي إنعطافة 180 درجة قد يقدم عليها في مواقفه.
لكن فات هؤلاء جهلاً او عمداً كيف أن "القوات اللبنانية" لم تؤيد الـ"س – س" عام 2009، ورفضت المشاركة في حكومة تمام سلام عام 2014 رغم الدعم الخليجي لتسميته، كما لم تستجب للتمنيات الفرنسية بتسميات رؤساء الحكومات بعد 17 تشرين وكذلك جاهرت بموقفها من ترسيم الحدود البحرية حيث طالبت بأن يمر الاتفاق بمجلس النواب ولم تجارِ كل مطالب "صندوق النقد" ما إستدعى عتباً أميركياً كشف عنه جعجع شخصياً قبل أشهر.
"القوات" كانت دوماً منسجمة مع قناعاتها وقراءاتها – بغض النظر إن كانت صائبة أو لا - وتمتلك حرية قرارها لأنها رفضت ان تسلّم أمرها حتى لاقرب حلفائها. لذا من اراد بصدق إستشراف مواقف "القوات" ومعرفة سمير جعجع على حقيقته، فـ "21 نيسان" بكل أبعاده مدخل إلزامي لذلك.