كتب شارل جبّور في صحيفة "نداء الوطن":
شكّل 8 كانون الأول 2024 زلزالًا سياسيًا على مستوى الشرق الأوسط، وضربة مزلزلة لإيران أدّت إلى إعادة ترسيم حدود نفوذها، بعدما توقف تمدّدها عند الحدود العراقية، وخرجت نهائيًا من سوريا، وسقط ذراعها في لبنان وغزة بالضربة القاضية.
ومن لا يعرف أهمية سوريا بالنسبة إلى إيران عليه أن يتذكّر خسائرها البشرية والمالية الهائلة دفاعًا ليس عن نظام الأسد بحدّ ذاته، بل عن النظام الذي فتح لها أبواب سوريا ولبنان وغزة. فدور إيران مع سوريا شيء، ومن دونها شيء آخر تمامًا، تمامًا كما كان دور الأسد عندما كان جيشه في لبنان، ودوره بعد خروجه منه. ولن تتمكن طهران من استعادة دورها سوى في حالة واحدة: استعادتها السيطرة على سوريا. وما لم يتحقق ذلك، فقد خسرت بضربة واحدة ثلاث ساحات، وفقًا لتصنيفها، استراتيجية.
أدّى إخراج إيران من سوريا إلى إعادة رسم أدوار اللاعبين في المنطقة، وهو الحدث الأبرز منذ إسقاط نظام صدام حسين، مع فارق أساسي: فبينما أدى سقوط صدام إلى تمدد إيران، أدى سقوط الأسد إلى انحسار دورها. وكان من المفترض أن يدفع هذا التحوّل طهران إلى تغيير استراتيجيتها التوسعية، لكنها واصلت السياسة ذاتها، رغم أن خسائرها لم تقتصر على خروجها من سوريا وقطع شريانها إلى لبنان وغزة، بل تلقى ذراعها في لبنان ضربة عسكرية قاتلة باغتيال أمينه العام، صاحب الفضل الأكبر في تضخيم نفوذها، واغتيال قادة الصفَين الأول والثاني، فضلًا عن توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي تشترط إسرائيل تنفيذه للانسحاب من لبنان، ويتصدّره إنهاء الدور العسكري لـ "حزب الله"، بالتزامن مع استسلام "حماس" في غزة.
تلقت طهران خلال السنتين الماضيتين ضربات لا تُحصى: من سقوط نظام الأسد، إلى حرب الأيام الاثني عشر التي كشفت ضعفها وأعادتها سنوات إلى الوراء نوويًا، وصولاً إلى هزيمتَي "الحزب" و"حماس". لكن الضربة الأكثر إيلامًا كانت سقوط الأسد ووصول نظام يناصبها العداء.
صحيحٌ أن أحمد الشرع ما كان ليتمكّن من إخراج الأسد لولا إضعاف إسرائيل نفوذ إيران و"الحزب"، إلا أن تل أبيب بدورها استفادت من وصول الشرع، لأن عدوّها الأول هو إيران، ولا يمكنها إخراجها من سوريا وإسقاط جسرها مع لبنان من دون بديل معادٍ لها في دمشق. وبالتالي، استفاد الشرع من إسرائيل، واستفادت إسرائيل من الشرع.
وعلى الرغم من البراغماتية التي يعتمدها الشرع في التعامل مع تل أبيب، من خلال توقيع اتفاق أمني وإبقاء خطوط التواصل مفتوحة، إلا أن إسرائيل ما زالت تتعامل معه كطرف خصم رغم تموضعه في المحور الأميركي - السعودي. ومن مصلحة واشنطن، الراعية الجديدة للشرع، أن ترعى العلاقة بين إسرائيل ودمشق تعزيزًا للمحور المناهض لإيران، لأن هناك عدم ثقة متبادلة: تل أبيب ما زالت تتعامل معه انطلاقًا من هويته القديمة، وبراغماتية الشرع لا تُخفي خلفيته العقائدية ضد إسرائيل.
وإذا كان سقوط الأسد قد شكّل ضربة استراتيجية لإيران و"حزب الله" و"حماس"، فقد شكّل في المقابل ربحًا صافيًا للشعوب السورية واللبنانية والفلسطينية. وإذا كانت سوريا المستفيد الأكبر من هذا التحوّل، فإن استفادة لبنان لا تقل أهمية، إذ كان من المستحيل بناء دولة في ظل الشريان الذي كان يربط طهران ببيروت.
يشكّل تاريخ 8 كانون الأول تاريخًا مشتركًا للسوريين واللبنانيين والفلسطينيين، لأن سوريا الأسد وإيران كانتا تصادران قرار الشعوب الثلاثة. وتحرير الشعب السوري أدى تلقائيًا إلى تحرير الشعبين اللبناني والفلسطيني. إنه تاريخ مشترك، وانتصار مشترك، خصوصًا أن مواجهة هذا النظام ومحوره لم تقتصر على الشعب السوري، إذ كان الشعب اللبناني في مقدمة من واجه هذا المحور.
تحتفل سوريا بتاريخ 8 كانون الأول، ونحتفل معها بهذه الذكرى الاستقلالية المجيدة. فلولا سقوط الأسد، ووصول نظام يؤمن بسوريا أولًا، وبحسن الجوار وعدم التدخل في شؤون لبنان وغيره، لما كانت وُلدت فرصة حقيقية في لبنان لإحياء مشروع الدولة. فهزيمة "حزب الله" عسكريًا لا تكفي طالما الشريان بين طهران وبيروت لم يُقطع. ومع قطعه، دخل لبنان فعليًا في حقبة الاستقلال الثالث، وما تبقى من عوائق ليس إلا تفاصيل.