لا يريد حزب الله أن يسمع شيئاً في الوقت الحاضر عن تطبيق القرار 1701، إلى درجة أن الأمين العام لـ”الحزب” حسن نصر الله لم يأت على ذكره ولو مرة واحدة في كلمته الأربعاء الفائت. فالكفّة يبدو أنها تميل إلى التصعيد، وهذا ما يظهر بوضوح على الجبهة الجنوبية تبعاً لحماوة المعركة في قطاع غزة، وما يشهده البحر الأحمر من عمليات بين الحوثيين من جهة والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة أخرى.
صحيح أن كل الساحات المشتعلة مترابطة، و”المايسترو” الذي يقف خلفها هي إيران التي تستخدم أذرعتها العسكرية في الشرق الأوسط لتحقق المكاسب في مفاوضاتها “تحت الطاولة” مع الأميركيين. وما لا يعرفه كثيرون ان إيران حرّكت الحوثيين في البحر الأحمر لتخفيف الضغط عن “حزب الله” في الجنوب ومقايضة المجتمع الدولي بين سلامة الملاحة البحرية التجارية الدولية والتراجع عن مطالبة “الحزب” بتطبيق القرار 1701.
واللافت أن “الحزب” يُدرك هذه الخلفية نتيجة عمليات التنسيق مع إيران، لذلك تقاطعت المعلومات من ديبلوماسيين فرنسيين وأميركيين زاروا بيروت في الآونة الأخيرة تلقوا أجوبة بواسطة المسؤولين اللبنانيين أن قرار “الحزب” هو رفض تطبيق القرار 1701 بالوقت الحاضر حتى انتهاء حرب غزة، وما يمكن أن يتباحث فيه هو إبقاء وتيرة الحرب في الجنوب ضمن قواعد الإشتباك المتعارف عليها، شرط أن لا تُقدم اسرائيل على خطوات تصعيدية وتوجيه ضربات في العمق اللبناني لـ”الحزب”. وهذا ما يبرر كلام نصر الله منذ يومين قائلاً “إذا فكّر العدو بأن يشن حرباً على لبنان، حينها سيكون قتالنا بلا حدود وبلا ضوابط وبلا سقوف، ومن يفكّر بالحرب معنا سيندم وستكون مكلفة جداً”. وهذا دليل على دقة المعلومات الواردة التي حصلنا عليها من مصادر ديبلوماسية غربية.
لكن في المقابل، سمع الموفد الأميركي آموس هوكشتاين كلاماً من الوزراء الاسرائيليين الذين التقاهم منذ يومين أن اسرائيل لن تنتظر إلى ما بعد حرب غزة لتطبيق القرار 1701، والمهلة المعطاة لـ”الحزب” كي يطبّق القرار سلمياً ومن دون حرب توشك على نهايتها، من هنا يُمكن فهم مخاوف بعض الدول الخليجية والغربية التي دعت رعاياها إلى مغادرة لبنان!
لا شك في أن الديبلوماسيين الفرنسيين والأميركيين الذين يلتقون المسؤولين الاسرائيليين يشعرون أن حكومة الحرب برئاسة بنيامين نتنياهو تميل عملية عسكرية في الجنوب، لذلك هم ينشطون ذهاباً واياباً بين اسرائيل ولبنان، لإبعاد شبح الحرب التي يتخوّف الأميركيون منها، لأنهم لا يريدون أن تورّطهم اسرائيل في حرب واسعة، بدليل أنهم يتمهّلون في البحر الأحمر من توجيه ضربات للحوثيين كي لا يتورطون في حرب مع إيران، وشكّلوا قوة ضاربة متعددة الجنسيات كي لا تُتّهم الإدارة الأميركية بدخول الحرب وحدها، بل تغطي أي ضربة عسكرية وشيكة للحوثيين بمصلحة المجتمع الدولي في حماية الملاحة الدولية وتأمين سلامة طرق التجارة العالمية.
لا يختلف إثنان على ان إيران وأذرعتها العسكرية تخاطر في اللعب بالنار، مما قد يخسرها درّة ميليشياتها حزب الله والحوثيين معاً، إذ وُجّهت لهما ضربات عسكرية قوية من الولايات المتحدة واسرائيل. وما نقصده باللعب بالنار هو رغبة اسرائيل باستدراج “الحزب” إلى حرب، والفرصة متاحة في ظل الدعم الدولي لها، لكن الحكومة الاسرائيلية مقسومة إلى قسمين: فريق يريد الحرب مع “الحزب” وحسم الموقف عبر إبعاده إلى ما وراء نهر الليطاني فوراً، وقسم آخر يريد الانتهاء من “حماس” أولاً في غزة ثم حلّ مسألة “الحزب” في الجبهة الشمالية.
لذلك ليس هناك إجماع اسرائيلي حتى هذه اللحظة، وهي تواجه ضغوطاً من المجتمع الدولي لثنيها عن أي مغامرة من هذا النوع، وربما الفرنسيين يبدون الأنشط على هذا الخط عبر مندوبهم جان ايف لودريان، وبعده وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، وأخيراً رئيس الجمهورية الفرنسية ايمانويل ماكرون. وتندرج زيارة وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن إلى الشرق الأوسط حالياً في هذا السياق، وهذا يدلّ على اهتمام أميركي كبير بضرورة تجنّب توسّع الحرب.
واللافت أن اغتيال اسرائيل للقيادي الكبير في حركة “حماس” صالح العاروري، كان إنجازاً كبيراً لها وخصوصاً أنها تمكّنت من إختراق معقل “الحزب” أي الضاحية الجنوبية، وقد رفعت بفضل هذه العملية معنويات جيشها وشعبها، وأخذت “اوكسيجين” لمتابعة الحرب. وهذه العمليات النوعيّة مرشحة أن تستمر، ولن يكون مسؤولو “الحزب” بمنأى عن محاولات اسرائيل لإغتيالهم، وخصوصاً أن تصفية العاروري كشفت بأن لها عيون في الضاحية وكل بيئة “الحزب”، وهذا أمر خطير إذا تكرر. فهل ستبقى الحرب في إطار قواعد الإشتباك إذا قامت اسرائيل بعملية اغتيال لأحد كبار مسؤولي “الحزب”؟
طبعاً القرار ليس لدى “الحزب” إنما لدى إيران، وكل كلام نصر الله عن استقلالية قرار الأذرع العسكرية لا يُقنع أحداً، فالنظام الإيراني يحل ويربط على هذا الصعيد، وهو يتجنّب أي حرب، إنما يريد من “الحزب” مشاغلة الاسرائيليين في جبهة الجنوب، ليحجز مكاناً له في أي تسوية مستقبلية للقضية الفلسطينية من جهة، ويريد من الحوثيين مشاغلة الأميركيين وحلفائهم في البحر الأحمر، لتحقيق مكاسب في أي مفاوضات مع الأميركيين من جهة أخرى.
ليس هناك ما يؤكّد أن حسابات حقل “الممانعة” ستكون مطابقة لحسابات البيدر الاسرائيلي، ونحن نعيش في لبنان سباقاً بين الحرب الواسعة أو البقاء في معادلة “قواعد الإشتباك”، إلا أنه من الواضح أن “الحزب” يتهرّب من تطبيق القرار 1701، ومن المتوقّع، إذا لم تقم اسرائيل بحرب لإبعاده بالقوة إلى ما وراء الليطاني، أن يناور بعد انتهاء حرب غزة في “ابتكار” صيغ تسمح له بالبقاء عسكرياً على الحدود، كالتعهّد مثلاً بسحب كتيبة الرضوان وبعض منصات الصواريخ، والاحتفاظ بمراكز معيّنة، وهذا ما لن تقبل به اسرائيل تحت أي عنوان، لذا كل الإحتمالات واردة، ويبقى لسان حال “الحزب” اليوم رداً على مساعي المجتمع الدولي: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة والقرار 1701 “أغلوه واشربوا ميّتو” حالياً!