كلّما تكلّم رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع عن تغيير التركيبة السياسية، تبدأ التكهنات والتأويلات، وتُضرب الأخماس والأسداس حول مقاصده، لكن يمكننا الجزم بأن جعجع لم ينطق في برنامج “صار الوقت” الأسبوع الفائت بشعارات فارغة أو للمناورة، فهو لا يجيدها ولا يحبذها، بل حاول أن يكون صوت وجع الناس وتوقهم إلى الدولة بمفهومها الحقيقي أي السيادة والدستور والقانون والسلاح الواحد أي سلاح الجيش اللبناني، وتطبيق القرارات الدولية.
كلامنا ليس لمجاملة جعجع أو تسويق طروحاته إنما محاولة استكشاف ما يعنيه في تغيير التركيبة السياسية اللبنانية من معراب مباشرة وبدقة كي لا يُسمح لأحد من الذهاب بعيداً في مخيلته “الصفراء” وحتى للبيئة المسيحية المتمايزة وربما المختلفة مع “القوات”.
حتماً يتميّز جعجع بأنه رجل دولة، يزن كلمته بالميزان قبل النطق بها، وهو يتحمّل مسؤولية كلامه ولا يتناقض مع تاريخه وقناعاته ومبادئه، فالرجل إختار، بكامل إرادته، في يوم من الأيام المعتقل بدلاً من الهروب إلى بلاد الله الواسعة، فتحمّل العذاب والأسر، ولامس الإستشهاد، ليبقى على مواقفه كالرمح لا يلتوي ولا يلين.
من الواضح أن جعجع هو أحد قادة الحرب، وهو لا يخجل بذلك، كان طموحه مثل كثير من اللبنانيين بعد حرب دامت 15 عاماً أن تنتهي بإتفاق بين اللبنانيين ينظّم عيشهم وحياتهم السياسية ويقودهم إلى نهضة يواكبون فيها ما فاتهم من تقدّم في السبعينيات والثمانينيات، حين إضطروا إلى مقاومة الاحتلالات والنزاعات المحلية. لكن ما حصل أن جعجع وخلفه “القوات” قبلوا بإتفاق الطائف، مقتنعين بأنه آن آوان التسوية التي تضع حداً لحوار “المدفع” والدماء والحديد والنار.
طبعاً لم يكن الإتفاق مثالياً، إلا أنه أفضل من واقع “الحرب” الدامية، إنتظر جعجع من الأطراف المعنية بالإتفاق أن يُنفّذ، لكن ما حصل كان العكس تماماً، تمّ الإنقلاب من النظام السوري وحلفائه في لبنان على الإتفاق، وتمادوا هؤلاء في الإنتقام من المسيحيين خصوصاً، فسجنوا قادتهم أو عملوا على نفيهم إلى الخارج، وإستمر هذا الأمر 15 عاماً، حتى استشهاد الرئيس رفيق الحريري وبزوغ أمل جديد مع ثورة الاستقلال الثاني ونضال البطريرك الماروني الراحل مار نصر الله بطرس صفير وقرنة شهوان التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، وخرج جعجع من السجن مع هبوب رياح الحرية، وكان هذا الأمر طبيعياً.
كان رهان “القوات” مرة ثانية على تنفيذ اتفاق الطائف عبر بناء دولة حقيقية خالية من سلاح الميليشيات، إلا أن “حزب الله” رفض تسليم سلاحه، متذرعاً بأراض لبنانية محتلة في الجنوب، وراح يبني “دويلته” عسكرياً واقتصادياً وعقائدياً واجتماعياً، حتى استقوت على الدولة وهيمنت عليها، ولا تزال حتى اليوم.
لم يقل جعجع في برنامج “صار الوقت” مع مارسيل غانم كلاماً مبهماً وغامضاً حتى يستنفر البعض ويتّهمه بالتمرّد على “الطائف”، فهذا “البعض” هو من انقلب على الطائف، بل أنه لم ينخرط به يوماً، ونقصد “حزب الله” التابع لإيران، حتى وصل المسيحيون بكل مكوّناتهم الحزبية والفكرية والطائفية المتنوّعة بأن الوضع “مش ماشي الحال”، فإلى متى الإنتظار؟
وما هو معروف أن جعجع هو زعيم الأكثرية النيابية المسيحية، بل يمثّل اليوم الوجدان المسيحي بإمتياز، علماً أن المسيحيين لا يمكنهم العيش بعيداً عن مفهوم الدولة، ولو اضطروا مكرهين في يوم من الأيام إلى حمل السلاح للدفاع عن فكرة هذه الدولة المنشودة وحماية لها، لا طمعاً بالإنفصال.
لقد مضى على توقيع اتفاق الطائف 35 عاماً، ولم يستطع اللبنانيون تطبيقه، حاولوا أن يجلسوا على طاولات حوار، لكن “حزب الله” لم يرضخ لمقرراتها، وبقيت حبراً على ورق، والنتيجة أن الطائف معطّل بحكم الاستقواء بالسلاح. فكلام جعجع لم يأت من العدم بل من أرض الواقع ونتيجة معايشة الأزمات منذ خروجه من المعتقل حتى اليوم وما شاهدناه كاف وواف لوصفه بالواقع المزري: فمنذ 35 عاماً ُيُمعن هذا الفريق الممانع بتعطيل الاستحقاقات الدستورية وكان آخرها رئاسة الجمهورية أو تخيير اللبنانيين بين انتخاب مرشحيه او الفراغ، وبالتالي هو لا يأبه لمصلحة الشعب اللبناني ويبدّي مصلحة محوره الخارجي ويفرض شروطه على اللبنانيين خارج منطق الدولة والدستور والقانون والعدالة والانتظام المؤسساتي.
أيقنت معراب أن “الحزب” لا يعير الانتباه او الأهمية لمصلحة لبنان وشعبه، بل دفع لبنان إلى انهيار غير مسبوق وتحلُّل خطير للدولة مما أدى إلى هجرة كبيرة للبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً. هؤلاء هاجروا ليس محبة بالهجرة، إنما بسبب التركيبة التي يعتمدها الفريق الممانع وهي تسمح له بمخالفة الدستور وانتهاك السيادة وتعطيل القضاء وشلّ المؤسسات وتعميم الفساد وضرب علاقات لبنان الخارجية وربطه بمحاور صراعية، وأقل ما هو مطلوب من كل مواطن لبناني الوصول إلى تركيبة تُخرج لبنان من جهنّم وتعيده وطن الازدهار والاستقرار والتألُّق.
لم يعد وارداً لـ”القوات اللبنانية” أن تبقى صامتة أمام هذا الوضع الخطير الذي يستنزف الشعب اللبناني ويكاد يأخذه إلى الإنتحار أو الفقر المدقع أو الهجرة. لقد طفح الكيل كون الشغور هذه المرة يحصل على وقع انهيار مخيف وتحلُّل للدولة رهيب، ولم يعد مسموحاً التغاضي عن هذا الواقع.
واللافت أن جعجع غالباً ما انتفض أيام الحرب على الأوضاع الشاذة والخطيرة التي تهدد مصير لبنان، صحيح أنه كان يمتك السلاح للتغيير، إلا أن إرادته لم تتغيّر وهو يمتلك اليوم القوة السياسية الوازنة بدلاً من السلاح، ليقول “كفى” للوقاحة والفجور التي يمارسها “حزب الله” وحلفائه، والرؤية لديه واضحة خلافاً لما يعتقده كثيرون. وكل من يرفض الإعتراف بضرورة تغيير التركيبة السياسية يُساهم، عن قصد أو غير قصد، بدعم مشروع “حزب الله” الخطير. فالطائف “المشوّه” قد تم اختباره، وكذلك اتفاق الدوحة، فماذا بعد؟
يتمتع جعجع بالشجاعة، فهو سليل كل المقاومين المسيحيين الذين مروا في التاريخ، ويحمل إرثهم على كتفيه، ومعه كل قيادات وكوادر “القوات”، وبعض مكوّنات المعارضة التي تلتقي معه بأن التركيبة السياسية اللبنانية قد إستنفدت ولم تعد صالحة، وبات من الضروري البحث عن تركيبة أخرى تحرر اللبنانيين من سلبطة “الحزب”.
تعرف القيادة في معراب أن الأكثرية التي تسمع جعجع يتكلّم عن تغييرات في التركيبة يتبادر إلى أذهانها المشروع الفيدرالي، إلا أن واقعية جعجع، وقد صارح بها جمهور “صار الوقت” تجعله يتمهّل في طرح الفيدرالية، وفق مبدأ إذا أردت أن تُطاع فإطلب المستطاع، وهو يعرف أن هناك من “يشيطن” هذا النوع من النظام في لبنان ويعتبره تقسيمياً.
لا شك في أنه بمجرد طرح جعجع تغيير التركيبة السياسية، يعني أنه خرج من الخطاب الكلاسيكي، وفتح الباب للحوار مع باقي المكوّنات المسيحية حول البدائل، وحتماً تُناقش في معراب أفكار عن أقصى اللامركزية الموسّعة، وهذا ما يؤيده الكثير من المفكّرين السياسيين المسيحيين تاريخياً وحتى اليوم.
أما الأهم بهذا الموضوع الشائك، أن جعجع لا يفرض شيئاً على أحد، بل مدّ اليد لكل القوى السياسية، للإتفاق بالتراضي على نقطتين: الأولى الإعتراف بأن التركيبة القائمة لم تعد صالحة بتاتاً بما يخدم مصلحة لبنان وشعبه، وقد أعطيت أكثر من الفرص من دون جدوى، ثانياً لم يعد جائزاً الاستمرار بهذه التركيبة، بل سيعمل في المستقبل القريب إلى دعوة كل القوى السياسية للتفكير بتركيبة أخرى ليس بعيدة عن اللامركزية الموسّعة إلى أبعد حدود.
لا يمكن للبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً أن يرضوا بفرض “الحزب” حياة الذل عليهم، ولا يمكن أن يبقى مستقبل الأجيال اللاحقة مرهوناً بسيطرة “الحزب” وحروبه “الإيرانية”، لذا تأخذ “القوات اللبنانية” هذه الهواجس على محمل الجد، علماً أن هذه الهواجس يتحمّل مسؤوليتها “الحزب” نفسه الذي أوصل فئة كبيرة من الشعب وفي مقدمها “القوات” للتفكير بتركيبة سياسية مختلفة، وهذا ما يوفّر حروباً جديدة يبقى الشعب اللبناني بغنى عنها.