بعد الزيارة التاريخية.. الى اين تتجه العلاقات التركية المصرية؟

turkey and masr

في ضوء الزيارة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب اردوغان الى مصر بعد أكثر من عشر سنوات من التقلّبات والتوتّرات، ونكاد نقول من العداوات، خصوصاً بين اردوغان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظامه غداة وصول الأخير الى السلطة وإطاحته بحكم "الإخوان المسلمين" المتمثّل بالرئيس الراحل محمد مرسي، لا بدّ من إلقاء الضوء حول الأبعاد الجيو سياسية لهذه الزيارة، وما يمكن أن يقدّمه تطوّر العلاقات واستئنافها بين البلدين للمنطقة، وتأثيرات ذلك على المعادلات الإقليمية خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المنطقة السياسي والجيو استراتيجي.

تركيا: موقع استراتيجي وتاريخ سياسي

دعونا بدايةً نذكّر بالموقع الاستراتيجي لتركيا وتاريخها السياسي: فتركيا تحتل مركز عضو في الحلف الأطلسي، وهي قوة عسكرية كبيرة جداً ولديها اقتصاد نشط متقدّم وتقوم صناعتها على تقليد الصناعات الشرقية والغربية، وهي بلد غني بالمياه وتملك كتلة سكانية ضخمة مع جوار جغرافي متعدّد مع أكثر من بحر وممرات مائية من البحر الأسود الى بحر مرمرة الى مضيقي البوسفور والداردنيل، وصولاً الى البحر الأبيض المتوسط، فبحر إيجيه كما لديها حدود مع كلٍ من روسيا وإيران وأرمينيا وأذربيجان واليونان وبلغاريا وسوريا والعراق، ولديها امتداد قومي يصلُ الى تخوم الصين في آسيا الوسطى، إذ أن الأناضول في أساسها بلاد الروم وليس بلاد الأتراك وقد فتحها العرب ومن ثم أُعطيت بمثابة إقطاعية للأتراك باعتبارهم عسكر للدولة العباسية.

تركيا ومسار التخلّي عن الإسلام واتّباع العلمانية

في تركيا أقلّيتان أساسيتان : الأقلّية العلوية ولديها في سوريا حكم علوي متجذّر ومتمكّن، وقد سيطر العلويون لفترة على الجيش التركي الى أن جاء اردوغان ومعه أصبحت قيادات الجيش من السنّة بدل العلويين.
الى جانب العلويين، هناك الأكراد المتواجدين في أفضل أماكن تركيا ومنابع أنهارها كما في اسطنبول مع حوالي 5 ملايين كردي، وقد وقع صراع قومي بين الأكراد والأتراك في ظل إنكار تركي لهوية الأكراد الوطنية، علماً أن في تركيا تعدّد هويات وتعدّدية في النظرة الى المستقبل : فمن جهةٍ هي وريثة إمبراطورية كانت في الشكل إسلامية بينما في الجوهر كانت إستعمارية، ثم تمّ التخلّي عن الإسلام واتّباع العلمانية وفصل الدين عن الدولة مع مجيء أتاتورك حيث وقعَ جيل تركي كامل في الجهل نتيجة الانتقال مع العلمنة من الحرف العربي الذي كان معتمَداً في القراءة والكتابة الى الحرف اللاتيني، ما تسبّب بوقوع جيل كامل في الجهل لعدم معرفته بالكتابة والقراءة،
فالنفس الاستعماري العنجهي تغلّب بالتالي على ما عداه من اتجاهات في تركيا، مترافقاً مع كرهٍ للعرب لان الأتراك اتهموهم بالخيانة لتحالفهم مع الإنكليز ضدهم، فيما الأتراك كانوا قد تحالفوا مع الألمان، لأن العرب كانوا يتحالفون لتحرير أرضهم من الاستعمار التركي.

إنحياز الى علمانية تركيا

من هنا، برزت جماعات عربية دانت بولائها للأتراك وهي "الأخوان المسلمين" الذين انحازوا الى علمانية تركية على حساب إسلام العرب، لأن أصول قيادات الإخوان ومؤسسيه والأقوياء الكبار في التنظيم، وفي معظمهم إما تركي وإما فارسي- إيراني، وبالتالي ليسوا عرباً.
تركيا اعترفت بإسرائيل بعد قيامها بعشرة أشهر وهي تابعة للغرب بحكم عضويتها في حلف الناتو وأكثر الجنود الذين ماتوا في الحرب الكورية كانوا من الأتراك، ومن هنا دخول الإسلام الى كوريا الجنوبية على يد الجنود الأتراك.
ومع اندلاع الربيع العربي، تبيّن أن القوة الوحيدة المنظّمة القادرة على الاستيلاء على الحكم في الدول العربية بعد سقوط الأنظمة فيها وفي طليعتها مصر هي جماعة الإخوان المسلمين، وهذا ما أكده الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في مذكراته "الأرض الموعودة".

اردوغان وحلم استعادة سلطة الإمبراطورية العثمانية

الرئيس رجب طيب اردوغان شعرَ أن بإمكان تركيا في هذه اللحظة استعادة أمجاد السيطرة الإمبراطورية على العالم العربي وإقناع الشعوب العربية بأن تركيا انتقلت الى الإسلام الحقيقي، فيما الحقيقة أنها بقيت ولا تزال علمانيةً، والدليل أنماط الحياة في تركيا وأماكن السياحة المفتوحة لكافة أنواع السياحات الجنسية وشواطىء العُراة والنوادي الليلية، وما الى هنالك من أنماط غربية علمانية متجذّرة في المجتمع التركي، حتى أن قَسمَ الرئيس التركي عند تولّيه سدّة الرئاسة التركية ليس على القرآن بل على شرفه حتى الساعة.

تلاقي النفوذ التركي والإخواني مع مصلحة الغرب

هذا النفوذ التركي الإخواني تلاقى مع مصلحة الغرب تماماً كما التقت مصلحته مع الوجود الإيراني الصفوي الفارسي الشيعي في المنطقة،
و ردّة فعل الأنظمة العربية على ما سُمّي بالربيع العربي كشفَ الدور الحقيقي للإخوان في الجسم العربي المسلم، علماً أن بعض الأنظمة العربية كانت قد استخدمت في السابق الإخوان المسلمين كما على أيام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك حيث كان متعايشاً مع الإخوان، وقد سمح الإخوان بالقيام بإنشطتهم واتّسع استخدامهم من قبل أنظمة عربية عدة في المنطقة نتيجة الحذر من القوميين والبعثيين واليساريين، ما عزّز وجود وترسّخ تنظيم الإخوان في المجتمعات العربية وإظهارهم مع الوقت على أنهم البديل الوحيد الجاهز للحكم عند إرادة العرب استبدال تلك الأنظمة.

الفرع الإخواني - الإيراني مستمرٌ في مخططه

مع إحباط وتحجيم الإخوان المسلمين بعد انهيار الربيع العربي وفشله، بقي الفرع الإخواني- الإيراني المستمر في مخططه ضرب العرب والأنظمة العربية بحيث جعل هؤلاء جُلّ أهدافهم زعزعة أمن واستقرار المنطقة العربية والمجتمعات العربية، وبالتحديد المجتمعات السنّية الكبرى في المنطقة مثل المجتمعات الخليجية والسورية والعراقية واللبنانية واليمنية وسواها.

استدارة القيادة التركية نحو الدول العربية

تركيا كابرت في بداية الربيع العربي ولعدة سنوات واحتضنت الإخوان المسلمين ووسائل إعلامهم وقياداتهم، ودعمت سياساتهم في المنطقة العربية ولا سيما في مصر والكويت والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في وقت استمرت التجارة البيَنيّة بين تركيا ومصر ودول الخليج كما هي من التبادل والازدهار، إلا أن انتفضت الشعوب العربية وقامت بانتفاضة على المنتجات التركية في أسواقها وقرّرت مقاطعتها، الأمر الذي أيقظ عند الأتراك حقيقة أن مصلحة تركيا هي في حسن علاقاتها مع العرب وليس في معاداتهم وعدم نجاعة المفاهيم القديمة تجاه العرب، فكانت استدارة القيادة التركية في انفتاحها مجدّداً على القيادات العربية من دولة الإمارات الى المملكة العربية السعودية، وصولاً الى مصر حالياً وزيارات الرئيس التركي لقيادات أنظمة تلك الدول وتوقيع بروتوكولات تعاون واستثمار وتجارة معها.

مصالح تركية متأرجحة بين العرب وإسرائيل

في السياسة كما في الحب، ليس هناك "دائماً" وليس هناك "أبداً"، فما بالنا بالعلاقات الدولية المبنّية دائماً وأبداً على المصالح،
فدولة الإمارات وبالتحديد الشيخ محمد بن زايد أفهمَ الرئيس اردوغان يوم زيارته له بأن لا علاقات مع الإمارات ممكنة من دون مصر والسعودية.
تركيا أدركت اليوم أن علاقاتها مع العرب اهم بكثير من دعمها الإخوان المسلمين، كما أدركت سابقاً أن استمرار علاقاتها مع إسرائيل اقتصادياً وتجارياً أهم بكثير من مقاطعتها ومحاربتها، فالسياسة الواقعية التي أنتهجتها القيادة التركية سمحت لها بتجاوز عقد الأخوانية والمواقف المتطرّفة، لأن ما يهمّ أنقرة اليوم، وككل دولة ذات نفوذ وموقع وثقل جيو سياسي واستراتيجي، مصالحها بالدرجة الأولى والأخيرة.

عودة الحرارة الى العلاقات التركية- العربية

إنتهى اذاً التماهي بين تركيا والأخوان، وهذا ما سهّل حق التحوّل في السياسة الإقليمية وتحديداً العربية، وبخاصة مع مصر التي لها موقع استراتيجي مساوٍ للموقع التركي إن لم يكن أهم منه : فمصر تتوسّط ثلاث قارات وهي في قلب الكيان العربي والخزّان الرئيسي للنظام العربي، فضلاً عن أن لمصر موقع استراتيجي يفوق أهمية موقع تركيا : فقناة السويس وحدها هي لكل أوروبا فضلاً عن البحرين الأحمر و الأبيض المتوسط والنيل الخصب، وفي عدد السكان مصر أكثر من مئة مليون بينما لا يتجاوز عدد سكان تركيا الثمانين مليون.
تركيا تخلّت عن أحلامها التاريخية إزاء العرب لاستعمارهم والتسلّط عليهم، وقد افتتح الرئيس التركي حقبةً جديدة من عودة الحرارة للعلاقات التركية- العربية، سيكون لها انعكاسات على العديد من أوراق المنطقة لجهة التعاون والتوسّط والتحالف، ربما كما في حالة الملف السوري الذي يميل شمالاً الى انسحاب تركيا وإنهاء " صداع المهجّرين السوريين "، وانفتاح أنقرة على نظام بشار الأسد لا كرئيس فعلي بل كهيكل شبه نظام دولتي ثمة حاجة له آنياً الى حين حلول موعد التغييرات الجذرية في سوريا .
وكما في الملف الغازي في المتوسط وترسيم الحدود البحرية للثروات بين تركيا ومصر، وفي الملف الليبي حيث لتركيا دور وتأثير على فريق سياسي مناهض لمصر، وفي ملف سدّ النهضة الأثيوبي حيث لأنقرة علاقات مع حكومة أديس ابابا يمكن توظيفها في تسهيل إيجاد حلول أو تسويات مع الجانب المصري تُجنّب الصدام المصري- الأثيوبي والذي قد يتوسّع في أفريقيا لصراع اكبر .

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: