موقع تركيا الجيو سياسي بين “تصفير” المشاكل وخطر التقسيم 

رجب طيب اردوغان

مَن يراقب الخط البياني للعلاقات الإقليمية لتركيا منذ العام ٢٠١١ أقله، يلاحظ بلا أدنى شكّ أن ثمّة انعطافةً جذريةً عرفتها سياسات الرئيس رجب طيب اردوغان، وتُستكمل اليوم باﻻنفتاح التركي على النظام السوري والزيارة المنتظرة للرئيس التركي الى سوريا، وما يمكن أن ينجم عن ذلك من تحالفات بين أنقرة وطهران في مواجهة مشروع شرقي الفرات، رغم أن الجانب الأميركي ضالعٌ فيه ما يُصعّب على تركيا العضو في الناتو والحليف اﻻستراتيجي المهم لأميركا في المنطقة السير ضد المشروع المذكور.

إنعطافة تركية لأسباب إقتصادية

من المؤكد أن اﻻنعطافة التركية التي تجاوزت التوترات الحادة مع المملكة العربية السعودية ولا سيما إثر مقتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي في داخل مبنى السفارة السعودية في تركيا وتجاوزت التوتيرات الحادة مع دولة اﻻمارات بعد اتهامها بالضلوع في محاولة اﻻنقلاب على الرئيس التركي كما تجاوزت العديد من الملفات الخلافية، هذه اﻻنعطافة لم تأتِ من فراغ لدى الجانب التركي بل نتيجة عوامل عدة منها ما هو داخلي كتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم في أكثر من محطة، ولعل آخرها انتخابات اسطنبول البلدية التي فازت فيها الجهة المعارضة للرئيس التركي وسياسات حزبه، وتصاعد الضغط الاقتصادي وهبوط الليرة التركية، ونتائج المقاطعات الخليجية للبضائع والمنتوجات التركية التي أرخت بظلالها السلبية على الأسواق التركية وأثقلت كاهل المؤسسات التركية المنتِجة واﻻقتصاديين الأتراك وألحقت بهم أضرار كبيرة، فضلاً عن اقتناع القيادة التركية بأن الزمن الحالي بكافة تشعباته ومتطلباته لم يعد صالحاً لتنفيذ أحلام استعادة الإمبرطورية العثمانية في الشرق بتأثيراتها ونفوذها وحساباتها اﻻستراتيجية، وقد تغيّر الشرق ومعه الزمن وشبكات العلاقات والتحالفات والمصالح.

من هذا المنطلق، كانت اﻻنعطافة لا بل اﻻستدارة الكاملة ٣٦٠ درجة في سياسات الرئيس اردوغان إقليمياً ودولياً حيث انتقل من استراتجية إعادة إحياء “الفكر العثماني” الى استراتيجية “تصفير المشاكل” مع المحيط وحل الخلافات بالسياسة والديبلوماسية، وقد ساعده في ذلك توجّه إقليمي وخليجي مماثل يسعى الى تصفير المشاكل وحل النزاعات من أجل الولوج الى شرق أوسط جديد تسوده التحالفات الإنمائية والاقتصادية والرؤى اﻻستراتيجية لقيادات دول المنطقة، وﻻ سيما الخليجية انطلاقاً من معادلة أن مستقبل الشرق الأوسط هو مستقبل يُبنى على اﻻقتصاد والنمو والتنمية والمشاريع اﻻستثمارية الضخمة لا على الحروب والنزاعات والدمار .

العلاقات التركية- الإسرائيلية والمصالح المتداخلة

مما ﻻ شكّ فيه أن تركيا تبقى من بين أبرز اللاعبين على الساحة الإقليمية والدولية اذا ما أخذنا بالاعتبار الدور الكبير الذي لعبه ولا يزال الرئيس اردوغان في الملف الأوكراني والدور المنوط بقيادته بأن تكون دولةً محوريةً في التواصل بين الناتو وروسيا، والوﻻيات المتحدة وروسيا، وأوكرانيا وروسيا، فضلاً عن الأدوار الأساسية في أزربيدجان وأرمينيا ودول القوقاز وتكتّل الدول التركمانية، والتأثير المباشر لأنقرة في صوغ السياسات والتسويات في تلك المناطق من العالم .
اﻻستدارة التركية مرّت بمراحل عدة وعلى مستويات عدة، ومن أبرز محطاتها : تراجع التبنّي المباشر لحماس في قطاع غزّة لتحل إيران مكانها رغم ما يصدر اليوم من مواقف تركية مناهضة لإسرائيل ورافضة مستهجِنة لحرب غزّة، لكن لا يظنّن أحدٌ بأن التوتر التركي- الإسرائيلي المستجدّ سيؤدي الى قطع العلاقات التركية- الإسرائيلية، وهي علاقات تسودها المصالح المتداخلة لا سيما إقتصادياً وتجارياً.


تراجعت أنقرة عن دعم وتغطية الإخوان المسلمين سواء في ليبيا أو مصر أو سوريا، وتصالحَ الرئيس أردوغان مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فيما أقدمت أنقرة على تسليم المعارضة السورية لبشار الأسد حالياً لإقفال حدودها والتركيز على اﻻقتصاد، في نفس الوقت الذي كانت فيه أنقرة قد أقفلت وطردت من أراضيها محطات وفضائيات ووسائل إعلام وإعلاميي الأخوان المسلمين خصوصاً تمهيداً للتصالح مع السيسي، بالتزامن مع إتمام اﻻنفتاح التركي على الرياض وأبو ظبي، وقيام الدولتين الخليجيتين بدعم اﻻقتصاد التركي بودائع مصرفية وإعادة تنشيط حركة التجارة بين الأسواق الخليجية والأسواق التركية دعماً لليرة التركية.

حكمُ اردوغان أمام تحدّيات جديدة

تراجعَ الرئيس اردوغان عن طموحاته في لبيبا وتونس ومصر، فتخلّى عن دعم حكومة بنغازي الإخوانية في ليبيا كما تخلّى عن دعم حركة النهضة التونسية تاركاً قياداتها طُعماً للملاحقات القضائية التونسية، وتخلّى أيضاً عن دعم إخوان مصر بعد سقوط الرئيس الراحل محمد مرسي. 


المشروع الإخواني فشلَ غداة ما سُمّي ب”الربيع العربي” وتمكن اﻻنظمة اللاديمقراطية كما في الخليج من الصمود واستعادة المبادرة للحفاظ على وجودها رغم التهديدات التي حاصرتها من جانبي الضفة : تركياً وإيرانياً ( للتذكير على سبيل المثال المحاولة الإيرانية السيطرة على البحرين وتدخّل درع الجزيرة لإنقاذ المنامة من خطرٍ كاسحٍ كاد يحقق أهدافه ويقضي على أمن واستقرار الدول الخليجية وأنظمة حكمها)، من هنا فإن اﻻنتخابات البلدية الأخيرة اذاً وضعت حكم الرئيس اردوغان أمام تحدّيات جديدة بعدما انتصر في معركة الرئاسة لكن بفوارق قليلة ميّزته عن المعارضة التي احتفظت ولا تزال بأكثرية ” مهدّدِة ” للنظام وضاغطة عليه، ونلاحظ في هذا السياق المفارقة التي سُجّلت بين انتصار الرئيس اردوغان في المعركة اﻻنتخابية الرئاسية العامة وفشله في اﻻنتخابات البلدية وبخاصة بلدية اسطنبول وهو الذي قال يوماً إن مَن يحكم اسطنبول يحكم تركيا.

تركيا أمام التحدّي الجيوسياسي والملفين السوري والكردي

الليرة التركية كانت تساوي ٢٥ ألف ليرة سورية ثم أصبحت تساوي دولارين في الثمانينيات، وقد حقّقَ الرئيس اردوغان عندما كان رئيساً للوزراء إنجازات إقتصادية كبيرة لبلاده لكنها عادت وتعرّضت لنكسات متتالية أدّت الى عودة التدهور المريع لليرة، وقد زاد الزلزال الأخير بكوارثه ونتائجه وتداعياته من الضغط على الوضع اﻻقتصادي التركي الداخلي، من هنا فإن التحدّي الجيو سياسي الأكبر الذي يواجهه الرئيس رجب طيب اردوغان اليوم هو الملف السوري، وفي هذا الإطار يمكن تسجيل الآتي :

  • أولاً : ثمة إمكانية كبيرة أن يعود الرئيس التركي ويتورّط في شمال سوريا والعراق بشنّ حرب على الأكراد، فالملف الكردي يبقى مستعراً في أنقرة، ولا يبدو أن ثمة أفق تفاهم بين أنقرة والأكراد، ولعل زيارة الرئيس اردوغان الأخيرة الى إقليم كردستان بعد إنهاء زيارته للعراق ولقائه رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني محاولة سياسية وديبلوماسية أخيرة يلعبها الجانب التركي لإيجاد حلّ، فإقليم كردستان يُعتبر “نقطة ترابط بين العراق وتركيا”، وقد التقى اردوغان رئيس إقليم كردستان العراق نجيرفان بارزاني ورئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني قبل مغادرته العراق، وكانت أجواء اللقاءات إيجابية جداً لدى الجانبين، وقد أكد الرئيس التركي على دعم تركيا المستمر للعراق وإقليم كردستان واستعداد أنقرة للتعاون وتوسيع العلاقات في كافة المجالات، مؤكداً على أهمية الحفاظ على السلام واﻻستقرار في المنطقة وحل مشاكلها وضمان حقوق كل مكوّناتها.
    ولعل أبرز ما نتجَ عن الزيارتين للعراق والإقليم إستعداد تركيا لاستقبال نفط حكومة إقليم كردستان مرة أخرى، ما يُفسّر التوجّه التركي في الانفتاح أيضاً على الأكراد انطلاقاً من إقليم كردستان العراق،
    لكن ومع كل ذلك يبقى خطر التورّط التركي في حربٍ ضد الأكراد وارداً اذا ما شعرت أنقرة بثقل التهديد الكردي للأمن القومي التركي الداخلي .
  • ثانياً : من المسلّم به أن أي مخاطرة تركية ضد الأكراد ستواجَه بحربٍ أهلية داخلية آخذين في اﻻعتبار وجود أكثر من ١٥ مليون كردي في تركيا، وقد صرّحَ الزعيم الكردي مسعود البرزاني منذ فترة أنه في حال أي خطر تركي على الأكراد سوف يلجأ الى إعلان النفير العام الذي يستجمع حوالي 80 مليون كردي حول العالم في اللحظة التي يشنُّ فيها الجيش التركي هجومه للقضاء على البشمركة الكردية، فدخول الأتراك الى شمالي العراق، لو حصل، سيؤدي الى تداعيات كارثية على الرئيس اردوغان نفسه ونظامه وحكمه، إذ سيؤدي الهجوم التركي الى تسرّع إعلان دولة كردستان، الأمر الذي اذا تمَّ سيلبّي احتياجات الإقليم ومصر والعالم العربي في اﻻستثمارات والتجارة، فضلاً عن خطر إنزلاق تركيا في اضطرابات داخلية تؤدي الى نشوب حرب أهلية، وبالتالي تفتيت وتقسيم تركيا المتواجد فيها أكثر من إتنية وأصل وعرق تركماني، من هنا الاعتقاد بأن إمكانية اجتياح الأتراك لمناطق سيطرة الأكراد تبقى خاضعة لعدة حسابات ليس أقلها الاعتبار الاقتصادي، فلو زاد اﻻنهيار الاقتصادي الداخلي في تركيا يمكن للرئيس اردوغان أن يهرب الى الأمام من هذا الوضع الخانق باتجاه إشعال الحرب ضد الأكراد فيقرّر دخول كردستان العراق، عندها رغم كل ما يبدو جلياً اليوم من انفتاح وزيارات واتصالات، لذلك يمكن فهم الاتصالات التي قام بها البرزاني مع الحكومة العراقية مؤخراً استباقاً لزيارة اردوغان للعراق والإقليم لوضع أطر التنسيق والتعاون بين أربيل وبغداد لمواجهة أي خطر تركي محتمل،
    فالتجربة الكردية أثبتت فشل أنقرة لأكثر من 30 عاماً في إنهاء ظاهرة الأكراد في جبل قنديل، وبالتالي سيكون الأمر أصعب وأشق على الرئيس اردوغان حسم الملف الكردي حالياً لاسيما وأن عوامل دولية وإقليمية وداخلية تمنعه من التوجّه نحو خيارات الحرب.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: