مع تعمّقِ المأزق الغزاوي ومأزق “حماس” المحاصَرَة في القطاع، وعشية زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الى واشنطن لإلقاء كلمته المنتظَرة أمام الكونغرس، وإزاء جمود المعادلات والحسابات الإقليمية والدولية بانتظار ما ستؤول اليه الانتخابات الرئاسية الأميركية ومَن سيشغلُ المكتب البيضاوي من الديمقراطيين أو الجمهوريين، إذا بالصين تحاول “في الوقت الضائع” لعب أوراقها ومنها الورقة الفلسطينية بطلبٍ من إيران المكشوفة سياسياً واستراتيجياً وأميركياً وإسرائيلياً وأوروبياً من خلال محاولة تهريب اتفاق مصالحة فلسطينية – فلسطينية لا سيما بين “فتح” و”حماس” لا هدف منه سوى تعويم “حماس” وإنقاذها من خطر فقدان دورها على الساحة الوطنية الفسلطينية وتحديداً في قطاع غزّة ما بعد الحرب.
السلطة الفلسطينية خائفة من انتقام حماس
من هنا، حاولت بكين “تهريب” اتفاق مصالحة فلسطينية سعت اليها فتح والسلطة الفلسطينية الخائفة من انتقام حماس منها ومن مواقفها لتتلطّى وراء بكين في إيجاد أرضية تُبعدُ عنها خطر حماس الداهم عليها في الضفة، وتُرسي ولو هدنةً موقتة في العلاقات المتوتّرة أصلاً بينها وبين حماس منذ العام 2015 وطردها من غزّة وتولّي حماس إدارة القطاع.
الصين من جهتها ومن خلالها طهران، تحاولان عبر هذا الاتفاق أو هذه المصالحة ضمان دورٍ مستقبليٍ لحماس في معادلة حكم غزّة في وقت لا واشنطن ولا تل أبيب ولا الاتحاد الأوروبي ولا الدول العربية والخليجية الأساسية في وارد التعاطي بملف غزّة طالما بقيت حماس موجودة، وتل أبيب واضحة تمام الوضوح في رفض أي وجودٍ لحماس وأي دورٍ لها في مستقبل القطاع، إذ تعتبرُ أن حماس انتهت ولا وجود لها في حكم القطاع مستقبلاً،
وبالتالي فإن المحاولة الصينية التي جرت لمصالحة 14 فصيلاً فلسطينياً على رأسهم فتح وحماس لن يُكتَب لها النجاح إقليمياً ودولياً، وفي ما يلي أبرز الأسباب :
-أولاً : منطق الصين في التعاطي بملف أصله وفصله أميركي- إسرائيلي – عربي من بوابة مصالحة فصائل لا تحوز على أي إجماعٍ من اللاعبين الإقليميين والدوليين الكبار المعنيّين بالقضية الفلسطينية هو بحدِّ ذاته منطقٌ لا تستقيم من خلاله أي مبادرة، فالمعروف أن كل خصوم أميركا في المنطقة أقرب الى الصين والروس منهم الى الغرب، وبالتالي فإن معادلة كل مَن يخاصم أميركا والغرب هو حليف حكمي لا تجعلُ من المبادرات الصادرة عن المحور الصيني- الروسي- الإيراني مبادراتٍ ناجحة ومعمِّرة، فالمحورين الدوليين والاقليميين المتصارعين بإمكانهما عرقلة الحلول إن لم يكن بإمكانهما إيجاد حلول أو التوصّل الى حلول قابلة للحياة والنفاذ.
-ثانياً : إيران هي التي تقفُ وراء المبادرة الصينية لتعويم حماس وحفظ دورٍ لها أقله في الوسط الفلسطيني المتناحر لإعادة شيء من شرعية العمل الفلسطيني لحماس تمهيداً لفرضها مجدّداً على أي تسوية إقليمية ودولية للقضية الفلسطينية، والعين على وصول المرشح الرئيس دونالد ترامب الى البيت الأبيض ونسفه كل ما حيك حتى الآن مع الديمقراطيين من معادلات قوة وتوازن حسابات استراتيجية بين إسرائيل وإيران، وبالتالي فإن طهران تحاول من خلال مبادرة “إعلان بكين” إعادة ترميم دورها في قلب القضية الفلسطينية بعدما أدركت خسارتها حماس والجهاد وكيليها الفلسطينيين في غزة، ولذا تبدو المصالحة في بكين أشبه بمناورة إيرانية لنقل الصراع الى داخل المنظومة الفلسطينية بعدما كان متركزاً بين الفصائل وحماس.
-ثالثاً : استحالة احترام الفلسطينيين لعهودهم ووعودهم في ما بينهم، فالفلسطينيون يتّفقون دائماً على أن لا يتّفقوا، وقد حاول العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله ومن أمام الكعبة الشريفة مصالحة الفصائل الفلسطينية ولا سيما فتح وحماس، فاقسموا على الوحدة ثم ما لبثوا أن تقاتلوا مجدّداً، فلا هيبة المكان ولا رمزيته الدينية ولا هيبة صاحب المبادرة الملك عبدالله شفعوا للمصالحة ولترسيخها، فما بالنا بمصالحة أمام أصنام ” بودا ” ؟!
فبقدر ما يمكن للصين أن تضبط تصرفات إيران وخروقاتها للاتفاق السعودي – الإيراني، بقدر ما يمكنها ضبط وضمان استمرار المصالحة الفلسطينية … فالحوثيون عادوا الى تهديد المملكة ووكلاء إيران عادوا ليعبثوا (وهم أساساً لم يتوقّفوا) بالدول العربية ويتشدّدوا أكثر في زرع عدم الاستقرار والتوترات والحروب والقلاقل … فالطعن بالاتفاق السعودي – الإيراني لا يزال مستمراً من الجانب الإيراني، فيما لا نرى من الصين موقفاً صارماً إزاء طهران …
-رابعاً: في معلومات صحافية مؤكدة أن الأجواء التي سادت اجتماعات بكين بين الفصائل الفلسطينية كانت متوتّرة جداً حيث عادت الخلافات الجوهرية بين فتح وحماس لتطفو على السطح، لكن كان هناك ثمّة اتفاقٌ على عدم إظهار هذه الخلافات أمام المضيف الصيني والرأي العام الفلسطيني الذي كفرَ بقياداته وبفصائله وهو الضحية الأولى والأخيرة للمتاجرة بقضيته.
من الوضاح في هذا السياق أن السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس باتت مترهّلة وضعيفة لدرجة خوفها من حماس والقبول بالذهاب الى بكين لتعويمها وإنقاذها وهي تدرك( أي السلطة الفلسطينية ) أن لا مستقبل لحماس في غزّة ولا دور لها في إدارة القطاع مستقبلاً، الأمر الذي يطرحُ مجدّداً على بساط البحث مسألة التغييرات الجذرية في السلطة الفلسطينية وقياداتها من خلال انتخابات عامة فلسطينية من الصعب إجراءها في هذه الأوقات من الحرب رغم أهميتها وإلحاح إتمامها، فالقيادة الحالية للسلطة الفلسطينية باتت أعجز من أن تمارس أي تأثير على مستقبل القرار الفلسطيني .
يبقى أن اللافت وجود خطيَن متوازيين لا يلتقيان: خط زيارة نتنياهو الى واشنطن للبحث في مستقبل الحرب والقضية الفلسطينية وغزّة والرهائن، وخط استدعاء بكين للفصائل الفلسطينية لمحاولة إنقاذ حماس وتعويمها فلسطينياً بعدما فشلت محاولات تعويمها إقليمياً ودولياً وعربياً وغربياً وخليجياً … الأمر الذي لن يكون لمصلحة الفلسطينيين ولا لمصلحة القضية الفلسطينية.
المايسترو في المنطقة يبقى الى الآن وحتى إشعارٍ آخر أميركياً، فكما منعت واشنطن تل أبيب من الخوض في وساطة صينية لإنهاء الحرب في غزّة منذ فترة هكذا لن تقبل واشنطن بأي دورٍ صيني في المنطقة ولا سيما في القضية الفلسطينية، وبالتالي فإن “تهريبة” المصالحة الفلسطينية هي سيناريو قديم- جديد لن يُكتب له أي تأثيرٍ أو دورٍ في تداعيات المرحلة المقبلة من الحرب … فتكون بكين قد حاولت وسعت سعيها عسى ولعل …