ما سوف نتناوله في هذا المقال قد يبدو جريئاً جداً وشائكاً كثيراً، ومن المرجّح أن كثراً عدلوا عن الخوض فيه دفناً لرؤوسهم في الرمال، لكننا وانسجاماً مع خطنا ونهجنا في التصدّي بشجاعةٍ للحقيقة بقلمنا الحرّ والملتزم لبنانياً وعربياً، نجدُ أنه لا بدّ من الخوض فيه لإنارة الرأي العام العربي ووضع الجميع أمام مسؤوليتهم في هذه الساعات المصيرية التي يتقرّرُ فيها وجه منطقتنا العربية ومستقبلها.
شارع عربي متأرجح بين دعم إيران من عدمه
تختلطُ مشاعرُ ملايين العرب وبخاصةٍ المسلمين السنّة حيال ما يحدثُ حالياً في المنطقة، ولا سيما منذ 7 تشرين الأول، وصولاً الى الردّ الإيراني الموعود على إسرائيل انتقاماً لكرامة الإيرانيين وثأراً لقتل إسماعيل هنية وفؤاد شكر، وهذا الاختلاط في المشاعر يتأرجح بين دعم إيران ضد إسرائيل أو دعم إسرائيل لمنع الجمهورية الإسلامية في إيران من الانتصار، وبالتالي تكريس قوتها الإقليمية على الدول العربية مع ما يعنيه ذلك من انتصار وتحقيق لمشروع تصدير الثورة والتشيّع في المنطقة العربية وسقوط الهوية العربية لعشرات السنوات عن المنطقة.
ما نطرحه هنا يجدُ بصراحةٍ صدى كبيراً لدى قسمٍ من الشارع العربي من المحيط الى الخليج، إذ يكفي أن نراجع وسائل التواصل الاجتماعي لندرك وجود تيارٍ سياسي عربي "سنّي" لا يُستهان به يدعم إيران رغم العداء الذي يحمله قسم كبير من هذا التيار ضدها وضد مشروعها الإقليمي، وهذه حقيقةٌ وواقعٌ لا يمكن نفي وجودهما … في دعم إيران وضربتها وردّها، بينما القسم الآخر من الشارع العربي والسنّي تحديداً يعتمدُ الدعاء " اللهم إضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين" كنوعٍ من الحيادية التي لا تُغني ولا تُثمِن، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن أي تضاربٍ بين الظالمين لن يكون بمعزلٍ عن تأثر الآخرين بنتائجه.
الشعوب العربية بين عدويَن لا يمكن المفاضلة بينهما
السؤال الكبير اليوم هو الآتي : هل يجب على العرب وبخاصةٍ الشعوب السنّية أن يدعموا إيران ضد إسرائيل أو إسرائيل ضد إيران ؟ هذا هو السؤال الذي لا يجرؤ الكثيرون على الإجابة عليه، إما بدوافع الضغوط الاجتماعية والثقافية والدينية التي يعيشونها، وإما بدافع عدم الرغبة في تذكية عدو على آخر، فإسرائيل عدو وإيران عدو وأية مفاضلة بينهما ستؤدي لا محال الى تقوية شوكة أحدهما على الآخر … وربما لا بل بالتأكيد على المنطقة وشعوبها وحكوماتها .
الخيار المستحيل بين حلمين: الإمبراطورية الفارسي والدولة الإسرائيلية
دعونا نتكلم بصراحةٍ ولنضع السيناريوهين أمام أعيننا مع الإشارة مسبقاً الى أمرَين أساسيَين : الأول أن لا يُفسّر تحليلنا على أنه دعم لسيناريو انتصار إسرائيل لأن موقفنا من تلك الدولة معروفٌ، فهي عدو لنا جميعاً ومغتصبةٌ لحق شعبٍ عربي شقيق بالوجود في دولته، ومغتصبةٌ وقاتلةٌ لشعب عربي شقيق عانى الأمرّين من احتلالها وبطشها وتنكيلها وقتلها لأطفاله قبل حرب غزّة وبعدها.
الأمر الثاني هو أننا وللأسف كعربٍ مضطرون في نهاية المطاف الى الاختيار بين عدوَين لأمتنا وعدوًين لدولنا ولمنطقتنا، علماً بأن الإثنين يعتمدان منطق التوسّع على حساب دولنا وسيادتنا وشعوبنا،
فإيران تريد التوسّع دينياً وثقافياً ومذهبياً لابتلاع المنطقة وإحياء أمجاد الإمبراطورية الفارسية الصفوية، فيما إسرائيل تريد التوسّع دينياً وثقافياً ومذهبياً وعسكرياً لتحقيق إسرائيل الكبرى … ومع ذلك علينا كعرب حسم موقفنا من العدوَين.
وفي إطار هذا التحليل، نعتقدُ أن حظوظ "التشيّع " في العالم العربي أكبر بكثير من حظوظ "التهوّد" لأسباب عدة ليس أقلها وحدة مصدر السنّة والشيعة الديني ( القرأن الكريم ) بينما الانتقالُ من الدين الإسلامي الى الدين اليهودي هو انتقالٌ من مصدرٍ الى مصدرٍ مختلف تماماً.
تفاصيل السيناروهَين المرتقَبين
بالعودة الى تحليلنا حول السيناريوهَين المحتملَين، يمكن تدوين الآتي:
1 - سيناريو انتصار إسرائيل على إيران
سيعني للعرب الذهاب الى التطبيع وتنفيذ المعاهدات والاتفاقيات الدولية حول التنمية والنمو الاقتصادي والتجارة الدولية وسواها من مشاريع ضخمة، وسيعني إيجاد حلٍّ لدولتين في فلسطين، وبالتالي انتصار الخط العربي المعتدل الى حدٍّ كبير والمتمثّل بالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات والكويت والبحرين ومصر والأردن …
وثمة احتمالٌ كبيرٌ بأن لا يتحقّق كل هذا، فإسرائيل ليست دولةً يؤمَنُ جانبها ولا يمكن الوثوق بها ولا تعطي بالمجان ولا تقرُّ بحقوق الآخرين، لكن تبقى المعادلة بين العرب والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل أقل سخونةً وتوتراً من تلك التي تحكم العلاقات العربية- الإيرانية لأنها بكل بساطة لا تنخر النسيج العربي الاجتماعي الثقافي الديني وتضرب أمن واستقرار الأنظمة العربية التي تربطها شبكة من المصالح المعقّدة والمتشابكة مع الغرب بدءاً من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وغيرهم، وبما ينعكسُ تحييداً لتلك العلاقات عن أي أذى إسرائيلي
2- سيناريو انتصار إيران على إسرائيل وسيعني انتصار الثورة الإيرانية وتصديرها الى المنطقة وحصول تسونامي محتمل من التشيّع (انطلاقاً من وجود نهج فكري يربط الإيمان بالانتصارات السياسية والعسكرية التاريخية في المنطقة) ما سيُضعِف الأنظمة العربية والخليجية وستدخل المنطقة في حقبة حكم أو سيطرة الفرس إلا إذا اختارَ الإيراني المنتصر خطَ العقل والتبصّر وعاد عن كرهه التاريخي للعرب … ولن نسترسل أكثر في عرض التداعيات لهذا السيناريو، فما ذكرناه يشكّلُ أساس كل ما عداه من تداعيات … مع الإشارة الى أن الغرب لن يتخلّى عن هذه المنطقة، وبالتالي سيسعى لزعزعة السيطرة الإيرانية عليها ودخولها حقبةَ عدم استقرارٍ وقلاقل سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية … خصوصاً اذا ما قويت "شوكة الصين وروسيا" بغضّ النظر عن ردّة فعل العرب حكوماتٍ وأنظمةً وشعوباً واحتماليات تحالفاتهم وتوجهاتهم .
وفي هذا الاطار، يكفي النظر الى الوضع السوري حيث حملات التشيّع جاريةٌ على قدمٍ وساق، وقد تحوّلت مدن وقرى الشعب السوري السنّي الى مناطق شيعية وإيرانية اسكنت عائلات وتحوي مؤسسات تربية وثقافية واجتماعية إيرانية شيعية … في تغيير ديمغرافي جذري … من هنا،
و انطلاقاُ من هذين السيناريوهَين أعلاه، يتبيّن عمق المأزق الذي نحن فيه كعرب … والمفاضلة بين عدوين أبغض السيناريوهات لكن بالنهاية لغة المصالح والعقائد والإيمان تحدّدُ الخيارات … فهل الحياد ممكن ؟ أوليس الحياد شكلاً من أشكال تزكية طرفٍ على آخر خصوصاً اذا كان من شأن هذا الحياد أن يشلَّ قدرتنا كعربٍ على أن يكون لنا الدور الفاعل في تقرير مصير منطقتنا ؟
لذا فإننا إذ نعود ونلفت نظر الرأي العام العربي الى ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي كما بدأنا مقالنا، ندرك تمام الإدراك الشحن العاطفي التاريخي لدينا ضد إسرائيل والقضية الفلسطينية التي كانت قضية العرب الأولى الى أن عبثَ بها القادة الفلسطينيون أنفسهم وانقسموا وتفرّقوا … فتعدّدت ولاءاتهم الإقليمية بعد ذلك .. ألا أن السؤال الذي طرحه بيلاطس البنطي على نفسه يوم حكمَ بصلب السيد المسيح عما اذا كان المجرم باراباس ليس أشد عداوةً للرومان من الآخر فجاء ردّه بشكل سؤال : " أتساءل حقاً مَن هو المجرم الأخطر علينا " قاصداً السيد المسيح … اذا بهذا السؤال يسقط نفسه على واقعنا العربي الحالي في هذا الظرف الاستثنائي … أي من إيران أو إسرائيل الأخطر علينا كعرب ؟
الإثنين ؟ صحيح … ولكن لنقم بمراجعة حساباتنا جيداً بعيداً عن عواطفنا وانفعالاتنا … فشارعنا العربي منقسمٌ … والإجابات تتناقض … لكن لا بدَّ من حقيقة ما تنهي تساؤلنا وتجعلنا نحزمُ أمرنا ..
وللحديث تتمة …