Search
Close this search box.

حرب أوكرانيا: تبدّلٌ دراماتيكي في موازين القوة … والحسابات الجيو سياسية

ukrain

رغم كل ما قيل ويُقال عن السياسية الأميركية الخارجية، إلا أن الحرب في أوكرانيا وتطوراتها الأخيرة المفاجئة أكدت وتؤكد أن واشنطن ماضيةٌ في جعل أوكرانيا عصيّة على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خصوصاً بعد تصاعد التوتر في الشرق الأوسط  كذلك التدخّلات الروسية في ملفات تعتبرها واشنطن ساحة طبيعية لمصالحها وحساباتها.

معادلة ” الأرض مقابل الأرض لا مقابل السلام”

نقول هذا الكلام انطلاقاً من ثابتةٍ أكيدةٍ هي أنه لولا الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلالها حلف الناتو، لما استطاعت أوكرانيا رغم بسالة جنودها وحكمة قيادتها السياسية والعسكرية من إحداث  الخرق الميداني الكبير الذي حصل حالياً واقتحام الجيش الأوكراني المؤمن بقضيته، أراضي الاتحاد الروسي والسيطرة على منطقة بعمق 1000 كيلومتر وقلب موازين القوى، بحيث باتت روسيا في موقع الدفاع عن النفس، والاضطرار لتقديم تنازلاتٍ حول مطالبها الأساسية، على قاعدة “ليس الأرض مقابل السلام بل الأرض مقابل الأرض”، وهنا كل حنكة القيادتين الأميركية- الأطلسية والأوكرانية.

وفي هذا السياق، هناك عبر التاريخ و على الدوام وخلال فتراتٍ زمنيةٍ متلاحقة، مَن يعتقد بأن بعض القادة لا يخطئون، وأنهم على الدوام مصدر قوة وإلهام وإعجاب، إلا أنه بعد تجربة أدولف هيتلر وبنيتو موسوليني كي لا نذكر سواهم، أثبتت أنه مهما بلغ القائد من القوة والجبروت والشكيمة والتبصّر، إلا أنه في لحظة ما ومن حيث لا يدري أو لم يتوقّع أو لم يرد التصديق، تحصلُ أحداثٌ طارئة قد تبدّلُ في خططه وتزعزعُ حساباته وتجعله يتراجع …

تصحيح الخطأ بخطأ أكبر

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس استثناءً، وقد حفظَ أشياءً وغابت عنه أشياءٌ أخرى، لا سيما وأنه وقعَ في سلسلة من الأخطاء بدأت يوم قرّرَ الدخول عنوةً الى أوكرانيا تحت حججٍ تاريخيةٍ جيو سياسية لم يَثبت للعالم صحتها، متحدّياً بذلك مبادئ القانون الدولي ومبادئ سيادة الدول واستقلالها، هي التي لطالما تحدّثَ عنها وعابَ على الغرب عدم الالتزام بها ليعود هو ويُصحح الخطأ بالخطأ  لكن بأكبر منه …

وانطلاقاً من هذا الواقع، وَقعَ الرئيس بوتين  بالخطأ نفسه الذي ارتكبه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، حين اعتقد في لحظة ما، وإزاء الصمت الأميركي والغربي أن بإمكانه اجتياح أوكرانيا خلال 3 أسابيع، تماماً كما اعتقد صدام حسين بإمكانية اجتياحه للكويت وضمها الى العراق، مستغلاً ما إعتبره موافقةً أميركيةً ضمنيةً، لتعود واشنطن وحلفاؤها والمجتمع العربي والدولي وينقلبوا عليه، فكانت بداية نهايته ونهاية نظامه.

الرئيس بوتين ظنَّ أن الأميركيين والأطلسيين لن يتدخّلوا لمؤازرة أوكرانيا ودخلَها في ليلة تسرّعٍ فكان ما كان، واذا بالأسابيع الثلاثة تتحوّلُ الى “حرب سنتين ونيف” وأكثر من ذلك بحيث تحوّلت دراماتيكياً لمصلحة كييف.

أما الخطأ الثاني الذي وَقعَ فيه الرئيس الروسي فهو زيفُ وعدم دقة التقارير العسكرية التي كانت ترده والتي لم تكن تعكس حقيقة الميدان، وقد تبيّن أن الجيش الروسي قد استعملَ خرائط قديمة يعود زمنها لأيام الاتحاد السوفياتي، بما لا يعكس حقيقة التغييرات والتعديلات الميدانية لساحات المعارك .

يُضافُ الى ذلك الخطأ المميت بتقدير إمكانيات أوكرانيا وقدراتها وإغفال احتمال تدخّل حلف الناتو لمساعدتها، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبرُ أوكرانيا إحدى ساحات الصراع الدولي بينها وبين روسيا الطامحة الى نظامٍ دولي متعدّد الأقطاب، والصين الطامحة الى توسيع علاقاتها الدولية لمنافسة الولايات المتحدة في الأسواق العالمية الاقتصادية والتجارية وتعزيز طريق الحرير .

واشنطن ورفض نظام تعدّد الأقطاب حول العالم

واشنطن تعتبرُ حرب أوكرانيا بأنها حرب إثبات وجودٍ وقوةٍ في مواجهة الخصم الروسي، ورسالة واضحة للجبارَين الآخرين بأن العودة الى الحرب الباردة لن تكون ممكنةً لأن واشنطن لن تسمح لأي منهما  بمنافستها، خصوصاً في المناطق التي تعتبرها واشنطن حيوية لها … فنظام تعدّد الأقطاب دونه الكثير الكثير مما يجب فعله لقبول واشنطن به، كما أن الولايات المتحدة لا تهتمُ كثيرا بأوروبا بقدر ما تهتم بمصالحها في أوروبا، تلك المصالح التي تمرُ أولاً وأخيراً بمنع الروس من تهديد أمن “القارة العجوز” وسيادة أراضيها ومواردها،

ومما يشيرُ الى الارتباك الروسي الكبير في مواجهة المعطى الجديد مع الأوكرانيين إستدعاء الكرملين لعناصر “فاغنر” من أفريقيا ومناطق عمليات أخرى، واستدعاء حتى جنود من شرق أوكرانيا المحتل ما خفّفَ الضغط العسكري على الأوكرانيين في الدونباس، فضلاً عن استدعائه قوات من الشيشان، فيما انخرطت سوريا بالمجهود الروسي من خلال تخصيص بشار الأسد لقوة عسكرية سورية بقيادة المدعو أحمد العودي، حيث فتحت تلك القوة مراكز تدريب وتجنيد في سوريا لإرسال المدرَبين الى أوكرانيا وكورسك الروسية.

واللافت في هذه الانعطافة العسكرية الكبيرة أن الدبابات التي استخدمها الجيش الأوكراني في اختراقه الأراضي الروسية هي ألمانية الصنع، ما يفسّر استخدامها على أنه عودة للدبابات الألمانية على الأراضي الروسية منذ 80 سنة، إذ إن المرة الأخيرة التي دخلت فيها دبابات برلين الى الأراضي الروسية كانت في الحرب العالمية الثانية مع أدولف هتلر، ما يؤشر الى وجود ملامح صراع أوروبي- روسي يعيدٌ الى الأذهان البروباغندا الحربية الألمانية- الروسية حيث ردّ نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديميتري مدفيديف على وجود الدبابات الألمانية في كورسك بتجدّد الرغبة في وصول الدبابات الروسية الى البادنشتاغ، تماماً كما حصل خلال الحرب العالمية الثانية .

تبادل سيادة الأراضي بين روسيا وأوكرانيا

 من هنا، فإن الرئيس الروسي في هذه المرحلة الجديدة من الحرب على أوكرانيا معزولٌ، وعندما يكون معزولاً يصبحُ أخطر وما اختفاؤه خلال الأيام القليلة الماضية واكتفاؤه بظهورٍ علني واحد وتجاهله شبه الصادم للدخول الأوكراني 1000 كيلومتر في عمق أراضيه سوى مؤشراتٍ تشي بإعداده لردٍّ ما قد يكون نووياً لا سيما وأن أحد أهم أسباب استخدام النووي في العقيدة الروسية قد تحقّق، وهو تهديد أمن البلد وسلامة وجوده.

ولعل الوضع قد يزدادُ تعقيداً أمام الكرملين اذا أخذنا بالاعتبار قيام كتيبة بيلاروسية في الجيش الروسي بتمرّدٍ على قيادتها، وإعلانها الوقوف الى جانب أوكرانيا، ما يدّلُ على الحالة المعنوية للعسكر الروسي والحليف، فضلاً عن حالة الارتباك السياسي السائدة في الكرملين ومراكز القرار الروسي، ومن هنا يبدو أنه من الواضح بأن ما حصلَ من اختراق أوكراني للأراضي الروسية لا يهدفُ الى احتلال روسيا بقدر ما يهدفُ الى تحقيق نوعٍ من التوازن الاستراتيجي العسكري يقلبُ موازين القوى ويجرُّ الرئيس الروسي بوتين الى طاولة المفاوضات، ليس على قاعدة الإقرار بمكاسبه في شرق أوكرانيا بل على قاعدة تبادل السيادة على الأراضي بين روسيا وأوكرانيا ما سيخفّفُ كثيراً من طموحات الكرملين.

تبدّل دراماتيكي وتغيير موازين

في المحصلة،أكثر من 80 ألف نازحٍ روسي حتى الآن، واحتلال الأوكرانيين لمحطة نووية كبرى في كورسك، ما يشكّل حصيلةً ثقيلة للكرملين الذي لا يستطيع استخدام السلاح النووي في الداخل الروسي، خصوصاً وأن النقمة الشعبية على القيادة والرئيس في أوجّها في تلك المنطقة التي يسيطرُ  الاوكرانيون عليها، وهذه الحصيلة مرشحة للازدياد في ظل شعور الروس بأن ما حصلَ يتطلّبُ وقتاً وجهوداً ضخمة لابتلاعه والتأقلم معه، فموسكو تدركُ أن من وراء الذي حصل ليس كييف لوحدها بل حلف الأطلسي بكامله، وبالتالي فإن الواقعية السياسية على حدِّ تعليق أحد أعضاء الدوما تفترضُ أخذ الأمور بحكمةٍ ورويةٍ، والتعامل مع المعطيات الميدانية على أنها حصلت ولا نفع لإنكارها والعمل على إزالتها ولو تطلّبَ الأمر وقتاً طويلاً.

 إنه تبدّلٌ دراماتيكي في سير الحرب بين أوكرانيا وروسيا يقلبُ الموازين والتوازنات ويضعفُ صورة الرئيس الروسي محلياً وخارجياً، الأمر الذي سيُلقي بظلاله على مناطق تواجد وتأثير الروس كما في الشرق الأوسط على سبيل المثال، وبالتالي و بلا أدنى شك فإننا أمام فصلٍ جديدٍ من الصراع بين روسيا وكييف ومَن وراءها من حلفاء أطلسيين … وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية مع ارتداداته كافةً على خارطة مساحات الصراع في العالم، وبوادر مثل هذه الارتدادات إمكانية تحالف “قسد” شمال شرق سوريا مع الأوكرانيين …

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: