ولادة “قيصرية” لشرق أوسط جديد 

Middle East Map

كتب جورج أبو صعب: لم يعد خافياً على أحد عمق التحوّلات والتغييرات الجارية في منطقة الشرق الأوسط، والتي لطالما تكلمنا عنها منذ أكثر من سنة، تلك التحوّلات التي تستجرُّ معها انقلاباتٍ جذرية في المشهدية المعتادة، فمن حرب غزّة وتداعياتها ولا سيما اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” على أرض إيران، الى حرب لبنان وتداعياتها ومن ضمنها اغتيال الأمين العام لحزب الله في لبنان حسن نصرالله وقيادات الصف الأول، وتداعي محور المقاومة تحت وطأة الضربات المتلاحقة على جبهاته، واغتياﻻت قادته، وصولاً الى المواجهة الإيرانية- الإسرائيلية المباشرة كما حصل بالأمس، الى تهديدات إسرائيل بتوسيع مسرح عملياتها لتشمل الشرق الأوسط كاملاً، والموقف الأميركي الداعم من دون أي تحفّظٍ لإسرائيل حتى عسكرياً وأمنياً، كلها إن دلّت على شيء فعلى دخول المنطقة عصراً جديداً ومرحلةً جديدةً وزمناً جديداً تستعدُ فيها لخرائط وتحالفاتٍ واصطفافاتٍ جديدةٍ ذات أبعادٍ استراتيجية مختلفة عمّا سبقها.

نحن بكل بساطةٍ في خضم “مخاض” شرق أوسط جديد، وهذه تجلّياته: حروب وسيناريوهات مخيفة واغتياﻻت وتصفيات جسدية تتخطى الخطوط الحمر كافةً لتصل الى تهديد كل دولة في أعماق وجودها.

إنطلاقاً من هذا الواقع، بات من الواضح والجلي الآتي:

-أولاً: سقوط هيبة محور المقاومة بعدما فشل في تثبيت معادلة وحدة الساحات، وبعدما لم تفلح إيران رغم هجومها “المدروس” على إسرائيل في إعادة الثقة لدورها الراعي للمحور لا سيما وأن إيران حالياً عادت الى سياسة الللغتَين واللسانَين والوجهَين بين تيار التطرّف المتمثّل بالمرشد الأعلى والحرس الثوري والتيار الإصلاحي المتمثّل بالثنائي بزشكيان – ظريف، فيما يبدو أن الحرس الثوري الإيراني كانت له الكلمة الفصل بالأمس حين رجّحت كفّته لقصف إسرائيل بالصواريخ لا لشيء سوى لتثبيت وجود وإنقاذ “ماء الوجه” بعدما بدأ الشك يتسلّل ضمن صفوف المحور ورأيه العام حول صدقية طهران في حمايتهم.

-ثانياً: سقوط الخطوط الحمر الإقليمية بحيث باتت الأجواء اﻻقليمية تعجُّ بتبادل الصواريخ، وعلى الأرض بتخطي مناطق اﻻشتباك والحدود والحسابات الاستراتيجية، فالخطوط الحمر من لبنان الى غزّة واليمن والعراق فسوريا سقطت نهائياً، ونقول نهائياً لأن الأوضاع لم يعد بالإمكان العودة بها الى ما كانت عليه سابقاً، فثمة شيء ما قد تغيّر وتبدّل ولم يعد كما كان ولن يعود كما كان.

الوﻻيات المتحدة الأميركية لن تتخلى عن إسرائيل ولن تعطي الإيراني المزيد من الفرص لاسيما وأن نظام الملالي قد تخطى المقبول بطرحه إنهاء إسرائيل والاعتداء عليها، ما يعني فشل المقاربات السلمية بين واشنطن وطهران، وبالتالي تحرّر الأميركيين من أي التزام ويجعلهم يعودون الى المربّع الأول في دعم إسرائيل أولاً وأخيراً.

-ثالثاً: أمن المنطقة بات على المحك والردّ الإسرائيلي الموعود على الضربة الإيرانية ليل أمس يزيد من تعقيد الحسابات خصوصاً في ما يتّصل بمصير البرنامج النووي الإيراني ورزمة “الإغراءات” التي كان الأميركي بصدد إغراقه بها، في مقابل فكّ التحالف مع روسيا واﻻبتعاد عن الصين وكبح جماح ميليشياتها في المنطقة، الأمر الذي بات في مهب الريح مع حصول المواجهة المباشرة بين طهران وإسرائيل والتي لم ينتج عنها أي ضحايا لا بل اقتصر الضرّر البشري على استشهاد فلسطيني بصاروخ إيراني، فضلاً عن غياب الخسائر المادية، ما يعني أن ما حصل ﻻ بدّ من أن ينعكس سلباً على إيران وقيادتها لأن الخطوط الحمر التي كانت تحكمُ مصالح واشنطن مع طهران تعرّضت ﻻنتكاسة كبيرة ستضاعف، إن ردّت إيران على الردّ الإسرائيلي المتوقّع، حيث تكون عندها الحرب محطة سقوط النظام الإيراني وإنهاء أي اتفاق أو صفقة أو تسوية.

-رابعاً: إيران تدرك أنها باتت على أبواب تغييراتٍ كبيرة في المنطقة، وبالتالي تحاول الاحتفاظ بمقعدها الإقليمي بالحدّ الأدنى، وهي تعلم أنها لا تستطيع مواجهة ما وراء إسرائيل، أي الوﻻيات المتحدة الأميركية، وقد قبلت باغتيالات قلادة ميليشيا حزب الله رغبة منها في تسهيل مفاوضاتها مع الأميركيين ومنحهم دفعة مسبقة “على الحساب”، فطهران محرجةٌ بشكل كبير وهذا صحيح، لأن ما يفوق إحراجها هي وضعيتها الجيو سياسية غير المريحة بعدما باتت محاصرَة ديبلوماسياً وسياسياً من واشنطن والعواصم الأوروبية التي لم تعد ترى في النظام الإيراني سوى شريك العدو الروسي في أوكرانيا والحليف المزعزِع لأمن القارة العجوز واستقرارها.

وكلما ردّت إيران على إسرائيل تثبتُ أكثر فأكثر قوة الأخيرة بالطريقة التي يتمُّ فيها قصف إسرائيل، وكلما قصفت إيران إسرائيل قَوّتها بفعل إحياء التعاطف الغربي معها والوقوف الأميركي الى جانب إسرائيل عندما تتعرّض لاعتداء، فمهما فعلت طهران فإن لا وحدة ساحات حاضرة ولا رمي إسرائيل في البحر خلال سبع دقائق ونصف وارد ولا شيء من كل هذه البروباغندا، فطالما أن إيران تُبلِغُ الكوكب مسبقاً عن عملياتها طالما أظهرت وأكدت ضعفها، وهي لا تتوانى عن التأكيد على أنها ﻻ تريد الحرب، ﻻ لأنها لا تريدها فعلياً بل لأنها تعرفُ أنها غير قادرة عليها، وما فعلته بالأمس ضد إسرائيل ﻻ يعدو كونه إنقاذ ماء الوجه تجاه حلفائها الإقليميين وتجاه الرأي العام المؤيد لمحور المقاومة في المنطقة.

قواعد اللعبة اذاً تغيّرت و”كلمات السر” القديمة استُبدلت بأخرى جديدة رموزها ضرب وكلاء إيران من خلال اغتيالهم بدءاً من فؤاد شكر في لبنان وإسماعيل هنية في إيران ومن ثم حسن نصرالله، فالرسالة الإسرائيلية بغطاءٍ أميركي- غربي واضحة لجهة إسقاط قدرة إيران على حماية نفسها أولاً قبل حماية وكلائها من الخطر الإسرائيلي، وبالتالي تحجيمها وتحجيم الدور الإيراني في المنطقة بإرجاعها الى حجمها الدولتي الطبيعي.

إسرائيل نجحت الى الآن في فرض شروط حربها على الجميع في المنطقة وبدءاً من إيران، ما يفسّرُ لجوء المرشد الأعلى الى ملجأ إدراكاً منه بأن  إسرائيل باتت المحدِّد الرئيسي لمصير التركيبة الإقليمية الجديدة انطلاقاً من استباحتها كل الساحات وإسقاطها كل الخطوط الحمر التي كانت تدير لعبة المنطقة.

القصة لم تعد متوقّفةً على ردٍّ إسرائيلي على الردّ الإيراني والعكس صحيح، بل انتقلت الى أكثر من ذلك بحيث باتت المنازلة بين مَن يريدُ إخضاع المنطقة لرؤيته مدعوماً من حلفاء أقوياء، ومَن يريدُ حفظ حصته من الكعكة الإقليمية الى ما بعد آخر الحروب والتي سترسمُ معالم شرق أوسط جديد مبني على توازناتٍ ومعادلاتٍ وحساباتٍ جديدةٍ تفرض بقوة القوي المستمر وعلى حساب الضعيف المتروك من حلفاء لم تعد أولوياتهم دعمه، فروسيا لن تدخلُ حرباً في الشرق الأوسط وهي منهمكة بما فيه الكفاية بحربها الأوكرانية- الأوروبية- الأميركية- الأطلسية، والصين لن تدخل في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، وما بينها وبين الأميركيين أكثر من رادعٍ استراتيجي ومصلحي، وبالتالي تبقى إيران وحيدة في المواجهة وهي التي باتت تطالب الغرب بحصتها وفاتورتها من تخادمٍ استمر زهاء ٤٠ عاماً جعلت منها منفّذةً ناجحةً لمخطط ضرب العالم العربي والمنطقة وزعزعة أمنها على خلفية عقيدة الثورة الخُمينية وتصدير التشيّع الى داخل المجتمعات العربية.

إنها لحظة الوﻻدة القيصرية لنظامٍ إقليمي جديدٍ يجعل ما قبل تلك الوﻻدة مختلفاً تماماً عمّا بعدها، فالساحات التي كانت مفترضَة لضرب إسرائيل باتت ساحات تهدّدها إسرائيل على وسع خريطة المنطقة، فيما الكل عاجز عن التحكّم بالمسار العسكري والميداني واضطرار إيران ﻻستخدام آخر أوراقها بالتدخّل المباشر لحماية نفسها ونظامها وبرنامجها النووي أم أن ما كُتب قد كُتب من بداية تحجيمٍ للتأثير الإيراني في المنطقة من خلال “قصقصة” جوانحها عبر وكلائها واستنزاف الحرس الثوري وفصائله تمهيداً لإعادة إيران الى مستوى الدولة “الدولتية” الطبيعية التي تتساوى مع سائر دول المنطقة،

لكن هل تقوى الجمهورية الإسلامية على الاستمرار  من دون عقيدة الثورة والتشيّع لاسيما وأنها بَنَت ما بَنته من إمبراطوريةٍ عقائديةٍ وجغرافيةٍ واستراتيجية على أساس هذه العقيدة؟

تبقى الإجابات على أسئلة كثيرة رهن تطورات الأيام والأسابيع القليلة المتبقّية قبل استحقاق انتخابات رئاسة الوﻻيات المتحدة الأميركية، فإما أن يتمَّ إنقاذ إيران من الغرق في اللحظات الأخيرة، وإما أن يتمَّ إسدال الستارة على فصلٍ تاريخي عاشته المنطقة لسنواتٍ حملت معها ما حملته من مأساة ودماء ودموع.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: