بقلم جورج أبو صعب
في خطاب آية الله الخميني بتاريخ 20 تموز 1988، أعلن قبوله بالقرار الأممي رقم 598 مستخدماً عبارة “تجرّع كأس السمّ” لوصف الإعلان عن قبوله بهذا القرار، فمجرد القبول بوقف إطلاق النار بين إيران والعراق وقتذاك عُدَّ بمثابة تجرّعه شخصياً كأس السمّ، بعدما كانت البروباغندا الإيرانية تَعدُ بمواصلة القتال ضد العراقيين تحت شعار “الحرب لإزالة الفتنة من العالم”.
وأُعيد استخدام تلك العبارة في كتاب سرّي بتاريخ 21 أيار 2002 وجّه الى المرشد الأعلى علي خامنئي و عُرِفَ بكتاب كأس السمّ.
الجمهورية الإسلامية في إيران وأمام عمق التحدّيات الحالية التي تواجهها في صراعها المباشر مع إسرائيل والغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، تراها مقبلةً على تجرّع كأس السمّ مرة جديدة انطلاقاً من عدم تكافؤ المعركة، على اعتبار أن الكلمة الفصل تبقى في واشنطن التي تقف بقوة الى جانب إسرائيل منعاً لتضرّرها من الهجمة الإيرانية، فهل تتجرّعُ القيادة الإيرانية هذه المرة كأس سمٍّ ثانية من نوع آخر انطلاقاً من عدم رغبة وعدم قدرة طهران على خوض غمار حرب إقليمية بالمباشر بعد تهالك قسمٍ مهمٍ من وكلائها سواء حماس أو حزب الله؟
بالعودة الى الواقع الحالي، دعونا نشير الى أنه لو أرادت طهران مواجهة إسرائيل حقيقةً لحرّكت قوات الحرس الثوري الإيراني المرابطة في الجولان على سبيل المثال والتي هي الأقرب والأفعل والأسرع، كما لو أن طهران أرادت حقيقةً مقاتلة إسرائيل لأمطرتها ليس بـ200 صاروخٍ بل 200 مرة 200 صاروخ، لكن ثمة اعتبارات لا تزال تقف عائقاً أمام رفض طهران المواجهة ليس أقلها موازين القوة التي تجعل من إسرائيل دولة “مدعومة” عسكرياً من أميركا ودول الأطلسي كلها، فيما روسيا لا تستطيع مهما أرادت مساندة إيران تأمين الدعم العسكري الموازي، فضلاً عن الوضع الاقتصادي الداخلي في إيران والمحاصرة المستمرة للجمهورية الإسلامية مالياً واقتصادياً.
الغريب أن منطق إيران والمحور الذي لطالما نادى بوحدة الساحات تجده اليوم مشتّت الساحات الى درجة أن الساحات باتت كلها داخل لبنان وداخل قطاع غزّة، ومما لا شكَّ فيه أن إسرائيل ستردُّ على الهجوم الإيراني الصاروخي الأخير، ومما لا شكّ فيه أن الردَّ الإسرائيلي الذي يُحضّر لن يكون على شاكلة الردّ السابق، بل سيعلوه درجات إذ من المتوقّع أن يطال الردُّ الإسرائيلي البنية التحتية الإيرانية من منشآتٍ نفطية فضلاً عن اغتيالاتٍ نوعية ربما في الداخل الإيراني،
ومما لا شكَّ فيه أن إيران بإقدامها (ولو من باب حفظ ماء الوجه) على مهاجمة إسرائيل مباشرة خلقت واقعاً استراتيجياً إقليمياً جديداً أعطى إسرائيل مبرّراتٍ كافيةً لتحويل التورّط الإيراني الى حربٍ مفتوحةٍ تُنهكُ النظام الإيراني، وقد تصلُ الى حدّ تهديد النظام الإيراني نفسه إن تمادت الحرب بين الطرفين، فإسرائيل ستردُّ والرئيس جو بايدن الذي بدأ عهده ديمقراطياً ويكاد ينهيه جمهورياً لا يتوانى عن رسائل تُبعثُ للإيرانيين ومفادها أن حدود الانتقام تتوقّف عند حدود المسّ بالكيان الإسرائيلي، ما يضعُ طهران في وضعٍ غير مريح إذ لا تستطيع الالتزام بعدم الردّ وقد عابَ عليها محورها تأخرها في الردّ منذ اغتيال قاسم سليماني والعلماء النوويين، وصولاً الى اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله وقادة حزبه الكبار، وبين عدم تورّطها في حربٍ مفتوحةٍ مع إسرائيل لا تريدها، فبين الثأر و حفظ ماء الوجه، وبين التورّط “شعرة” رفيعة تحاول القيادة الإيرانية حتى الآن عدم قطعها … ولكن الأحداث تبدأ ثم تكبر ككرة الثلج بما قد يفلت الأمور من عقالها.
مما لا شكَّ فيه أيضاً أن هناك في محور المقاومة مَن باتَ يطرحُ أسئلة مشكّكِة على النظام الإيراني، إذ لم يعد يفهم بعضهم ماذا تريد طهران بالضبط.
ويُلاحظ في هذا الإطار أن طهران أعدّت نفسها ربما بترسانة صواريخها لمثل لحظة مواجهة كهذه مع إسرائيل، لكن في الوقت نفسه تجاوز الإسرائيلي الترسانات العسكرية ليصل الى اتقان التكنولوجيا المتقدّمة والتي أثبتت إسرائيل حتى الآن تفوقها في مجاله، وما حوادث التجسّس وتفجير البيجرز وأجهزة اللاسلكي ثم اغتيالات قادة حزب الله اقتناصاً سوى الأدلة على ما نقوله، فكل ترسانة إيران ووكلائها في المنطقة لم تستطع منع إسرائيل من تنفيذ اغتيالاتٍ ولا تنفيذ هجماتها الهمجية على لبنان، وها هي إسرائيل تسرحُ وتستبيح الأجواء اللبنانية والسورية واليمنية من دون رادعٍ ولا حسيبٍ وتضربُ حيثما ترى مناسباً لها.
الأكيد أيضاً أن الهجوم الإيراني الأخير أثبتَ بما لا يدع مجالاً للشكّ فشل سياسة طهران في استمالة الأميركيين للضغط على إسرائيل لا سيما وإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليس هذا الحليف المطيع للأميركيين، إذ أحياناً الحليف الأميركي هو الذي يخضع لإرادته، وبالتالي إن أرادت طهران إرسال رسالة الى الإسرائيليين مفاها بأن تل أبيب مكشوفة وعلى مرمى من صواريخها، الا أن الرسالة المفخّخة المقابلة جاءت من أسلوب الردّ الأميركي دعماً لإسرائيل ومساهمة فعّالة في إسقاط صواريخ إيران المتّجهة نحو إسرائيل.
إيران حالياً أمام معضلة، وسواء أرادت أم لم ترد الحرب إلا إنها بالتأكيد سوف ستواجه تصعيداً إسرائيلياً متمثّلاً بالردّ على هجومها واستمرار هجماتها على وكلائها في المنطقة، ومن هنا تأتي المساعي السياسية بمثابة سمٍّ بعدما تجرّعت الجرعة الأولى من الكأس بفقدان حماس وإضعاف حزب الله واغتيال أمينه العام، في وقتٍ تحشدُ الولايات المتحدة الأميركية في قبرص جنودها للتدخّل في الشرق الأوسط إن دعت الحاجة مؤازرةً لإسرائيل.
حتى الآن، لم تغيّر إيران عقيدتها النووية لكن في حال تعرّضها لهجوم إسرائيلي نوعي وضاري عندها كل شيء ممكن، ولكن تبقى إسرائيل الى الآن محتكرة للتفوّق النووي في المنطقة، ورغم ذلك تبقى إسرائيل من أجل ضرب البرنامج النووي الإيراني بحاجة للولايات المتحدة الأميركية.
بنهاية المطاف، إسرائيل وإيران متفقتان على تقاسم أدوار زعزعة أمن المنطقة والأنظمة العربية، و هما تتنافسان على حصصهما من “كعكة الشرق الأوسط”، فيما تختلفان فقط على الملف النووي حيث لا تقبل اسرائيل بتفوق إيران عليها، فهل تتجرّعُ الجمهورية الإسلامية كأس السمّ بالقبول والاعتراف بدور إسرائيلي في إعادة ترتيب المنطقة بعد الجلوس على طاولة المفاوضات لا سيما وأن ليس أمامها خيار آخر أم أن برنامجها النووي سيكون الضحية المستقبلية وبالتالي تخسر نظامها ؟!