كتب جورج أبو صعب:
في خضم غبار المعارك وتشابك المواقف وتصاعدها والتصعيد في الميدان وتبادل التهديدات والأخطار الإقليمية، ثمة حقائق يجب لفت الرأي العام اليها.
الحقيقة الأولى أن الأميركيين والأوروبيين لا يريدون الحرب في لبنان مع إسرائيل خوفاً بالدرجة الأولى من سقوط الاتفاقيات الاقتصادية وعقود النفط والغاز وحقل كاريش (الذي لم يُصب الى الآن من قبل حزب الله بخرطوشة وليس بصاروخ أو مُسيّرة) وقد تمَّ تحييد الحقول النفطية والغازية حتى الآن ربما كورقةٍ تستخدمها إيران في حال هوجم برنامجها النووي مع الردّ الإسرائيلي المرتقب وردّ إيران المرتقب أيضاً.
من هذا المنطلق، نفهم لماذا المجتمع الدولي يريد نهضة المؤسسات في لبنان واقتلاع الفساد وإنهاء أي سلاح غير شرعي وبسط سلطة الدولة حمايةً للاستثمارات الواعدة في النفط والغاز والعقود المبرمَة لاستخراج واستثمار الآبار المكتَشفة.
الحقيقة الثانية هي أن إيران، ومنذ اندلاع حرب لبنان وعلى عكس الأشقاء العرب والخليجيين كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات والأردن وسواها، لم ترسل أي مساعدات إنسانية الى لبنان لا بل الى بيئة المقاومة النازحة المشرّدَة على الطرقات والساحات وفي مراكز الإيواء.
إيران التي يجب أن تعتبر بيئة المقاومة بيئتها الملزَمة بمساعدتها ومؤازرتها طبيعياً، لم ترسل “كيس خبز” الى بيئة وجمهور حزب الله المنكوب، بينما دول الخليج التي شنّت قيادات حزب الله ومحور المقاومة عليها أبشع الحروب والاعتداءات والشتم والتهديد والعداء سارعت الى مدّ جسور جوّية للمساعدات الإنسانية والإغاثية لبيئة هذا الحزب.
الحقيقة الثالثة هي أن في إيران قرارين متناقضين لا توزيع أدوار بين الإصلاحي الرئيس مسعود بزشكيان والمرشد الأعلى المحافظ وجماعاته في الحرس الثوري بحيث لا يمكن أن يكون هناك توزيع الأدوار عندما يبلغ حدّ التناقضات الجذرية في العلاقات الدولية، وهنا يستوقفنا أمران هامان:
-الأول مواقف الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الذي ومن خلال شاشة يهودية التمويل والإدارة والملكية أي شاشة تلفزيون سي أن أن (CNN) والتي صبّت كلها في مهادنة الأميركيين واعتبار العلاقات معهم علاقات صداقة وتقدير لقيم الولايات المتحدة الأميركية والدعوة للحوار معها.
-الثاني التي يمثّله قياديو الحرس الثوري والذين يطلقون يومياً مواقف التهديد لأميركا وإسرائيل، ما يعني وجود سياستَين خارجيتَين وموقفَين وقرارين.
الحقيقة الرابعة هي أن يحيى السنوار كان صنيعة الاحتلال الإسرائيلي، وهو الذي عاش في السجون الإسرائيلية ما يقارب الثلاثين عاماً، وما كان طوفان الأقصى إلا توريطاً للفلسطينيين تمهيداً للقضاء على قضيتهم بتواطؤ بين بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرّفة والتي تجاهلت عمداً تقارير الاستخبارات الإسرائيلية التي كانت تحذّرُ من شيء كبير يُحضّرُ ضد إسرائيل من قطاع غزّة، ومع ذلك كله فتحَ الفخّ صبيحة السابع من تشرين الأول من العام 2023 وكان ما كان، فالأمور تقرأ بخواتيمها.
الحقيقة الخامسة هي الخطأ الاستراتيجي المميت الذي ارتكبه حزب الله بإسناد غزّة وبطلان الإدعاء بأن إسرائيل كانت ستهاجم لبنان في مطلق الأحوال إذ كان الأفضل ألف مرة لحزب الله أن يتركَ الإسرائيليين يهاجمون لبنان ليكتسب شيئاً من المشروعية اللبنانية، لا بل التضامن اللبناني الأوسع والأشمل في مقاومته الاحتلال، فضلاً عن أنه كان استجلب للبنان التعاطف الدولي مراتٍ مضاعفة، إذ يكفي أن ننظر اليوم الى العزلة التي يعيشها لبنان في وجه آلة القتل والتدمير الإسرائيلية وغياب أوجه التضامن الدولي التي ظهرت في أثناء مجازر قطاع غزة، ونقول خطأ مميتاً لأن الحقيقة السادسة مفادها أن حزب الله وقع في شرك سوء التقدير وسوء الإدارة وسوء احتساب إسناده لغزّة، فانتهت غزّة وارتدت آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة أميركياً وأطلسياً وعربياً عليه وعلى لبنان تدميراً وقتلاً وإضعافاً له، وربما إنهاءً لآلته العسكرية كاملة في الأيام والأسابيع المقبلة، وكأنه كتب نهايته بيديه، وهو لم يكن مضطراً أبداً لمثل هذه المآزق التي جعلت منه اليوم بأمسّ الحاجة لمَن يسنده في مواجهة التدمير والقتل والتهجير.
فالحزب بخوضه حرب الإسناد لغزّة أوقع نفسه لا بل استدرج نفسه لمواجهة غير متكافئة لا عسكرياً ولا استخبارياً ولا تكنولوجياً ولا في الجو ولا في البر ولا في البحر … فاذا بإسرائيل اليوم دخلت وتدخل قضماً وعلى مراحل الى الأراضي اللبنانية في مدن وقرى جنوبية عدة فارغة ومدمَّرة فيما مقاتلي الحزب “ظهرهم” مكشوف لغياب الحاضنة الشعبية التي تسندهم ميدانياً وغياب التكافؤ في نوعية السلاح والإمكانات والقدرات العسكرية.
الحقيقة السابعة التي نختم بها هي أن التسوية الإقليمية الكبرى آتية على حساب إيران الثورة والقرارات الدولية ستنفذها المجموعة الدولية وليس اللبنانيين ولا السوريين ولا اليمنيين ولا العراقيين، خصوصاً في ما يتعلّق بإنهاء أذرع إيران الإقليمية كل في بلده، فقرار إنهاء الميليشيات الإيرانية في المنطقة يُنفَذ والأمور مرهونة بالميدان، ولا صحة لأي تسوية أو اتفاق وقف إطلاق النار والقرار 1701 خصوصاً وأن الجانب اللبناني المفاوض يُمعن في تجزئته وتشويه مضامينه التي في طليعتها تنفيذ القرار 1559 القاضي، في أهم بنوده، بنزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، في الوقت الذي تعتبر فيه إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو نفسهما المولجين بتنفيذ قرار إنهاء الميليشيات الإيرانية، وصولاً الى إنهاء البرنامج النووي الإيراني.
هي حقائق لا ترحم لزمن انقلاب المشاهد الإقليمية وتغيّر الحسابات والمعادلات في أجواء ولادة “شرق أوسط جديد” متشابك المعالم لكن واضح أنه سيكون من صنع أميركي – إسرائيلي بالدرجة الأولى.