كتب جورج أبو صعب
أما وقد أُسدلت الستارة عن أكثر الانتخابات الرئاسية الأميركية إثارةً وخطورةً، عاد الرئيس السابق دونالد ترامب مجدّداً، ولولاية ثانية، الى قيادة الولايات المتحدة والعالم.
التحدّيات الجيو سياسية العالمية ضخمةً جداً وقد يلزمُها فكرٌ براغماتي واضح مثل فكر دونالد ترامب لأن التشابكات الإقليمية والدولية واختلاط الحسابات على أكثر من ساحة دولية أوصلت جميع الأطراف المتنازعة الى حافة الهاوية إن لم تكن الهاوية نفسها.
مما لا شك فيه أن ظروف دخول الرئيس ترامب الاولى الى البيت الأبيض عام ٢٠١٦ لا تشبه أبداً ظروف عودته اليوم، لا سيما وأنه يتسلّم من خلفه الديمقراطي جو بايدن عالماً تدبُّ فيه الفوضى والحروب والاقتتال والانقلابات الاستراتيجية والجيو سياسية، فيما فكرُ ترامب اقتصادي ومالي وتنموي وإنمائي لأميركا وفي نظرته لعلاقاته مع الحلفاء كما الأعداء.
انطلاقاً من هذا المعطى، يمكن القول إن عودة الرئيس ترامب الى البيت الأبيض في ما يتعلّق بسياسات واشنطن المقبلة على مساحة الكوكب ستنطلقُ أولاً وأخيراً من اعتبارات مصالح الولايات المتحدة الأميركية والشعب الأميركي بالدرجة الأولى بحيث تكون تلك المصالح هي الخط البياني الأساسي الذي ارتكز اليه لتوسّع معايير السياسة الخارجية، وأكبر تحدٍ في هذا الإطار ينتظر الرئيس ترامب الصين ومنافستها الاقتصادية التي من ضمنها يأتي عزم ترامب على فرض تعرفةٍ جمركيةٍ عالمية بنسبة 20 في المائة على جميع الواردات الأجنبية، مستهدفاً بالدرجة الأولى المنتجات الصينية، ناهيك عن تعهّده المعلَن بفرض رسومٍ جمركيةٍ بنسبة 60 في المائة على جميع المنتجات الصينية التي تستوردها الولايات المتحدة، ما يُنذرُ بلا شك باندلاع إحدى أشرس الحروب الاقتصادية والتجارية في العالم خلال السنوات الأربع المقبلة.
الانعطافة الثانية المتوقّعَة هي الحرب في أوكرانيا ما سيفتح ملفها بشكل كبير انطلاقاً من ثابتتين لدى الرئيس ترامب: وقف أو تخفيض المساعدات الأميركية المالية والعسكرية لكييف في مقابل الضغط على الجانبين الروسي والأوكراني للجلوس الى طاولة التفاوض وإبرام deal ما، هو الذي يمتهنُ إبرام الصفقات خلال مرحلة أعمال أثبت فعالية منطق الصفقات في السياسات الخارجية لإنجازات تخطت أحياناً سقف المقبول أو المعقول كما اتفاقات أبراهام، من هنا الاعتقاد بأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا ستشهد تبدّلات جذرية تنهي الصراع من دون كسر أي من الطرفين المتنازعَين، وقد يكون من ضمن “الباكاج” إعطاء موسكو مقاطعتي الدونباس والدونتسك في مقابل حزمة استثمارات اقتصادية وتجارية ومالية لأوكرانيا مصحوبة باتفاقات استراتيجية مثل إلغاء فكرة انضمام أوكرانيا الى حلف الناتو، وجعلها منطقة حياد دولي بين الغرب وروسيا لم تطرأ تبدّلات استراتيجية أو جيو سياسية لاحقاً أبداً من الحسابات والمعادلات بين واشنطن وموسكو.
الشرق الأوسط، ومن خلاله لبنان وفلسطين، له حساباته الخاصة والدقيقة، فخسارة كمالا هاريس للسباق الرئاسي في جزء منه عائدٌ لفشل إدارة جو بايدن في إقامة التوازن بين الدعم لإسرائيل والتطلّع الى تحقيق حل الدولتين، لا بل ظهر جلياً طوال فترة السنة على اندلاع “طوفان الأقصى” أن واشنطن الديمقراطية وكأنها اكتفت بلعبة الحَكَم والمنسّق بين جموح بنيامين نتنياهو على القضاء بالدم والنار والدمار على مصادر تهديد أمن إسرائيل سواء في الداخل أو على الحدود المجاورة وأولها الحدود الشمالية، وبين الجموح التوسعي لولاية الفقيه في إيران على حساب دول وشعوب المنطقة وقد زادت من تعقيدات المشهد الخيارات والقرارات الخاطئة لحزب الله في إسناده غزة والتي أثبتت عقمها وعدم جدواها لا بل ارتدادها على لبنان بالمآسي والتدمير والتهجير.
اسرائيل الساعية الى إعداد نفسها لتكون الأرضية المستقبلية الأساسية للاستثمارات التجارية المقبلة الى المنطقة تسعى اليوم الى التخلّص نهائياً وبالقوة من أذرع إيران المهدِّدة لها في المنطقة، إذ وبعد قضائها على القدرة العسكرية لحماس والجهاد الإسلامي في غزّة انقضت على حزب الله اللبناني وضربت ما يصل الى ٦٠% من قدراته العسكرية وبناه التحتية الأمنية والعسكرية بدءاً من اغتيال غالبية قادته من رأس الهرم الى أسفله، وصولاً الى بيئته الحاضنة عبر مسح قرى ومدن جنوبية وبقاعية وتهجير الظهير الأهلي للحزب والتغييرات الديمغرافية المقلقة التي سيستجرها.
في كل هذا، يمكن اختصار استراتيجية الرئيس ترامب بثلاثة محاور :
-الأول: لا مجال لأي سلام يمهّد للاستثمارات في المنطقة طالما استمر التهديد العسكري لأذرع إيران، وبالتالي وكما قالها ترامب في إحدى مقابلاته الأخيرة متوجهاً الى نتنياهو بأن عليه إكمال ما بدأه، أي متابعة ضرب أذرع إيران وفي طليعتهم حزب الله.
-الثاني: متابعة مفاوضات التطبيع العربي- الإسرائيلي لا بل تسريعها والتوصّل الى صفقات ولا سيما بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل من خلال معالجة حلّ الدولتين وهو ما ترفضه إيران مفضّلة حل الدولة الواحدة ، تمهيداً لجعل إسرائيل عاملاً مقبولاً في المنطقة يُسهّل تمرير المشاريع الاستثمارية والتنموية فيها، والتي تلاقي مسار دول الخليج وأولوياتها في المرحلة المقبلة.
-الثالث: تحجيم إيران إقليمياً بعد إضعاف أو إنهاء أذرعها في المنطقة لتشديد العقوبات، وتجدّد الحصار الاقتصادي والمالي من الخيارات الأساسية المطروحة وبالتالي تجفيف المنابع الى حين رضوخ إيران لاتفاقٍ نووي جديد بشروط البيت الأبيض الجمهوري – الترامبي، وقد يوافق على مشاركة القوات الأميركية في الضربات على إيران بشكل مباشر، وفقاً لما نقلته “سكاي نيوز”.
وفي هذا الخضم، ليس مستبعداً أن يُهدي نتنياهو لترامب إنجازاً ديبلوماسياً سياسياً يفتح له الطريق أمام إكمال التطبيع، لكن بعد التخلّص من التهديد الوجودي الإيراني والخطر النووي لولاية الفقيه كما تعتبر تل أبيب.
في ملف تايوان، المعادلة واضحة: إدفعوا لنا لنحميكم، فلا خدمات مجانية مع دونالد ترامب، وفي ملف أوروبا والناتو كل الهشيم هنا على مصير الناتو واللُحمة الأميركية – الأوروبية، وقد بدأت الدول الأساسية في الاتحاد بتحسّس خطر تخلّي واشنطن عنه ما لم يتمّ التوصّل الى أرضية اتفاق بين الحلفاء والأصدقاء يستجيب لشروط ترامب ويضمن استمرار التعاون والتحالف المتين بين ضفتي الأطلسي، الأمر المتوقِّف أيضاً على مسارات إنهاء الملف الأوكراني.
دونالد ترامب في البيت الأبيض مجدّداً ما يعني انعطافةً جيو سياسية مصيرية للعالم وملفات الطاقة والتجارة الدولية وأزمات المنطقة المفتوحة من الآن وحتى كانون الثاني أقله على شتى السيناريوهات الخطيرة.