كتبَ أنطوان سلمون: على الرغم من ان حالة النكران والانفصال عن الواقع والابتعاد عن الوقائع هي السمة البارزة والمسيطرة على اداء الحزب وبعض جمهوره وكل ابواقه، فإن إطلالة الأمين العام للحزب الشيخ تاريخ 14 كانون الأول 2024 بما حملته من مقاربات مبتعدة مسافات ضوئية عن الحقائق التي سجلتها الأشهر الأخيرة من انعطافات خطيرة وتحولات كبيرة أدت الى موافقته وحزبه على اتفاق كان قبل ايام مرفوضاً مرذولاً وبنوده كانت من سابع المستحيلات، كذلك ما حملته هذه الاطلالة من قراءة خيالية مجافية لحقيقة ولواقع اثر سقوط نظام بشار الأسد على ممانعته وحزبه وقوته واستمراره وحتى وجوده بحد ذاته.
امام حالة النكران هذه تذكر الكثيرون ضابط الاستطلاع الياباني هيرو اونودا، الذي بقي 29 عامًا في الأدغال يرفض تصديق انتهاء الحرب وهو الذي قاتل في الحرب العالمية الثانية، ولم يستسلم حتى عام 1974. ويعد اونودا آخر جندي استسلم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث ظل مختبئاً في أدغال الفلبين لمدة 30 سنة، حتى سنة 1974 حينما قرر تسليم نفسه للجيش الفلبيني.
مع الفارق الكبير بأن اونودا كان معزولاً عن العالم منقطعاً عن الاتصالات مغيباً عن الواقع مفتقداً للمعلومات في حين ان قاسم محاط ومزود بالمعلومات ومصادرها ووسائل ووسائط الاتصالات والتقنيات لتصب الحقائق الصعبة والمرّة لكنه شأنه شأن الاعلام الشمولي المعلب يختار إنكار ما لمسه وسمعه وشاهده من ان اللعبة انتهت وان محوره خسر وتوجت خسارته بسقوط الاسد وقصم ظهر المقاومة وسندها وممر تحويلها الاموال والسلاح والمخدرات التي اعتبر الشيخ صادق النابلسي تهريبها عبر سوريا ذهابا وايابا عملا من أعمال المقاومة.
لقد اعترف قاسم بأن “حزب الله خسر في المرحلة الحالية طريق الإمداد القادم عبر سوريا” لكن قاسم وعلى طريقة الضابط الياباني اعتبر “هذا “تفصيلاً صغيراً” وقد يتبدل مع الزمن أو قد نجد طرقاً اخرى “غافلاً عن وقائع الارض والحدود البرية المسيطر عليها ممن حاربهم الحزب والفصائل الايرانية وجيش الاسد لـ13 عاماً دفاعاً عن هذا السند وذاك الظهر وحفاظا عليه، كما غفل قاسم “الياباني” عن سيطرة العدو الجوية والتمادي في استهدافاته، اذ يقر الشيخ نعيم على ان “العدو دمّر كل إمكانات الجيش السوري تحت عنوان “الدفاع المسبق” و”الخوف من المستقبل” بغطاء أميركي وهم يريدون إعدام المنطقة”.
ناهيك عن اغفال قاسم الياباني موافقته على اتفاق وقف اطلاق النار والذي ينص صراحة وبوضوح على وقف امداده بالأسلحة والذخائر والعتاد العسكري بالإضافة الى فكفكة ترسانته ومصادرتها اينما وجدت على الاراضي اللبنانية تحت طائلة قصفها من العدو الاسرائيلي “انسجاماً” مع بند حق الدفاع المشروع عن النفس في الاتفاق وبنود وثيقة الضمانات الاميركية التي تعطي للإسرائيلي حق التحرك والتصرف امام اي خطر قد يتهدده بالإضافة بما وافق عليه قاسم واغفلته نسخته اليابانية عن ضبط المعابر الشرعية وغير الشرعية عبر بسط سلطة الدولة وقوات اليونيفيل على الحدود البرية.
اما في قول قاسم بالنسخة اليابانية المذكورة أعلاه على أننا منعنا العدو من الدخول إلى “الشرق الأوسط الجديد” من بوابة لبنان ففيه إقرار بأن الدخول تم وسيتم عبر البوابة الفلسطينية الحمساوية السورية والايرانية والعراقية ولم يوفر البوابة اللبنانية التي فتحها الحزب بموافقته عبر وزرائه على بنود الاتفاق في جلسة 27 تشرين الثاني 2024.
في قول قاسم الياباني “سقط النظام في سوريا على يد قوى جديدة لا يمكننا الحكم عليها إلا عندما تستقر وتتخذ مواقف واضحة وينتظم وضعها”، مجافاة ومعاداة للحقيقة التي وثقت وارخت انخراط الحزب منذ 13 عاماً في حرب سوريا تحت حجة وشعار محاربة من اطلق عليهم “القوى الجديدة” والتي كانت حتى الامس القريب تحمل اسم “جبهة النصرة”.
اما في قول قاسم في نسخة الضابط الياباني”: “نتمنى أن يتشارك كل الأطراف في سوريا ليكون الحكم على قاعدة المواطن السوري… ومن حق الشعب السوري ان يختار حكومته ودستوره …”، فهو دحض لما قام به الحزب من تهجير وتطهير وقتل وقمع طائفي مذهبي عبر عنه الامين العام السلف السيد نصرالله بقوله في تاريخ 13 آذار 2018: “لا نحارب في سوريا من اجل الحفاظ على الاسد بل للحفاظ على التشيّع”.
قد يكون التعبير الصارخ عن تقمص قاسم للضابط هيرو اوندا في قول الامين العام المنفصل غير المتصل بالواقع: “لقد صبرنا خلال هذه الفترة على مئات الخروقات الاسرائيلية لكي لا نكون عقبة أمام تنفيذ الاتفاق وكي نكشف خروقات العدو… الحكومة هي المعنية بمتابعة منع الخروقات الاسرائيلية واللجنة المكلفة هي المعنية.. نحن كحزب نتابع ونتصرف بحسب تقديرنا للمصلحة”، اذ يكرر ما سبق ان قام به من صبر استراتيجي دعاه اليه الامام خامنئي امام الخروقات والاعتداءات وهذا ما سبق ان اعتمده في الفترة الممتدة من آب 2006 حتى الثامن من تشرين الأول 2023 امام أكثر من أربعين ألف خرق اسرائيلي بري وبحري وجوي لم يكن الحزب فيه الا عدّاداً لها ندّاباً عليها ليتحجج بها لاحقاً بعد ضغط الزر الايراني الذي أشعل جبهة الجنوب مساندة لغزة لا رداً على 17 عاماً من الخروقات والاعتداءات الإسرائيلية كما أوردنا.
وأخيراً وبما يشبه الاقرار بالهزيمة والقبول بانتهاء مهمة وصلاحية وفعالية ما يسميها الحزب مقاومة هو في قول قاسم الياباني: “برنامج حزب الله في المرحلة المقبلة هو تنفيذ الاتفاق في جنوب نهر الليطاني…”، لبرد عليه من يعايشون لبنان القرن الواحد والعشرين لبنان ما بعد فقدان امين عام الحزب حسن نصرالله وهاشم صفي الدين وقادة الحزب، ولبنان ما بعد احتلال اسرائيل لأراضي داخل العمق اللبناني واسرها لمقاتلين من الحزب لم يطالب بهم ولبنان ما بعد موافقة الحزب على ما كان يرفضه من انسحاب وتراجع مسلحين وتسليم سلاح ولبنان ما بعد سقوط حكم بشار الأسد وانكفاء الايراني والروسي عن سوريا ولبنان قبيل تسلم الرئيس دونالد ترامب لسلطاته وصلاحياته، بأن السلاح لا بد ان يتحول الى خردة وسيبقى ذاك الياباني منتظراً الاوامر من قيادته المنهزمة المستسلمة للقوى المنتصرة الظافرة.