مع ارتفاع “موضة” إثارة العواطف والغرائز الطائفية والمذهبية وشحنها لغايات شعبوية تعبوية غبّ خيال المحور الممانع وإسقاطاته على الخصوم والشركاء من اللبنانيين، تبرز الوقائع متسلسلة سلسة مؤدية الى طريق ذي اتجاه واحد، أملت التطورات الدراماتيكية على الحزب ومحوره ومشغله اجتيازه عن غير طيبة خاطر لتكون تصاريح الممانعة وإعلامييها بمكان والوقائع على أرض الواقع بدءاً من جنوب الليطاني بمكان آخر بعيد ومختلف تماماً عن مضمون التصاريح والانتصارات اللفظية الخطابية.
من المؤكد أن ما يجري حالياً على الجبهة الحوثية المسانِدة البعيدة لغزة هو من ضمن الوقائع المتسلسلة غير السلسة التي أفضت وتفضي وقد تفضي الى إنهاء ما بدأه الإسرائيلي في غزة وأكمله في لبنان، والذي قد يقضي لاحقاً على إيران برضى أميركا وتشجيع الرئيس دونالد ترامب.
عند بدء الطوفان وبعيده، كانت التصاريح الممانِعة في غزة ولبنان والعراق واليمن وسوريا تبشّرُ بسقوط حتمي وهزيمة قريبة للعدو الإسرائيلي، وكانت طرقات الجبهات المسانِدة معبّدة للوصول الى القدس أو في أحسن الأحوال حصار الإسرائيلي وفرض شروط الممانعة عليه ترويضاً وتبيضاً للسجون ووقفاً للاعتداءات وانسحاباً للاحتلال…
لترتفع الأصوات استجداءً لإنقاذ غزة ولاحقاً لبنان وجنوبه وضاحية عاصمته وبقاعه،مختلطة بأصوات التهديد والتهليل بالصواريخ “الغبية” التي لم توقف إبادةً ولم تغنِ عن احتلال غزة وقرى في الجنوب اللبناني ما زال العدو يحتفظ في نقاط منها وتدمير ممنهج ما زالت الدول المانحة قاصرة لا بل ممتنعة عن إعادة إعمار ما تهدّم في غزة ولبنان إلا بعد تنفيذ ما اتُفق عليه مع العدو برعاية أميركية أي، وبلغة سلسة، تسليم السلاح وإنهاء دوره في كلٍ من لبنان وغزة ولاحقاً في العراق واليمن بعد سقوط السند التمويلي والتسليحي والعضد التهريبي في سوريا.
اليوم وفي غمرة خطابات النصر التي أُطلقت في مراسم تشييع الحزب نفسه مع تشييع أمينيه العامين نصرالله وصفي الدين، والتي أُطلقت في مراسم تشييع مئات والآف الكوادر من الصفوف الأولى والثانية والثالثة، باستطاعتنا تلمّس المسار التنازلي للممانعة في فرعها اللبناني أي حزب الله… إذ بعد أن كان متمسكاً بسلاحه ودوره المقاوم على الحافة الأمامية في وجه العدو الإسرائيلي جنوب نهر الليطاني ودور سلاحه غير المقاوم على طول مساحة الـ10452 كلم2 ونموذجيه في 7 أيار 2008 في بيروت والجبل، وفي 14 تشرين الأول 2021 في الطيونة وعين الرمانة… ها إن حزب الله يقرُّ ويقبل بعد تفويضه الرئيس نبيه بري وتحديداً في جلسة مجلس الوزراء تاريخ 27 تشرين الثاني 2024 ومن خلال وزيريه في الحكومة باتفاق وقف إطلاق النار بطلبٍ إسرائيلي على ما كرّر أمين عام الحزب نعيم قاسم في خطابات النصر التي تلت دخول الاتفاق حيز التنفيذ،وبرعاية لجنة خُماسية يرأسها الأميركي “الشريك والمحرض على الاعتداءات الاسرائيلية والحامي لاحتلالاته”، والذي ينصُّ صراحةً على تسليم الحزب لسلاحه ولحصرية حمل السلاح بالدولة اللبنانية بقواها الشرعية وحدها بدءاً من جنوب الليطاني.
مع وضوح النص باللغتين الإنكليزية والعربية، يروّج مسؤولو الحزب الضليعون بـ”لغة الضاد” أن الاتفاق يشمل فقط وحصراً جنوبَ الليطاني لا شماله، وأن حصرية السلاح بيد الدولة لا يعني “الحزب” على بقية مساحة الوطن، ليقرّ بترويجه “المُعتَوِر” هذا بأن الدور المقاوم للسلاح قد سقط لانتفاء حاجته شمال الليطاني وبعيداً عن الحدود… وقد يكون عدم ورود عبارة “المقاومة” في البيان الوزاري لحكومة عهد الرئيس جوزاف عون الأولى خير ترجمة ودليل عن انتهاء دور السلاح المقاوم.
بعيداً عن مشاهد نتائج الحرب المباشرة على الحزب وهيكليته وصلابته واستمراريته وما تلاها من قبول ما لم يكن حتى مقبول التحدث فيه، برزت مؤخراً وتزامناً مشاهد وضعها المراقبون من التنازلات المتتالية ل”الحزب المنتصر” من فصل جبهة الجنوب اللبناني عن جبهة غزة، وقبول التفاوض والاتفاق على وقف إطلاق النار قبل وقف الاعتداءات وانسحاب الاحتلال، القبول بمرشح توافقي لرئاسة الجمهورية والتخلي عن سليمان فرنجية،القبول بالقرار 1701 والقرارات الدولية ذات الصلة أي 1559, 1680 انتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية (بعد “حرد”) بما حمله من عناوين سيادية في خطاب القسم، اضطراره للتعامل الإيجابي مع تسمية نواف سلام لرئاسة الحكومة بعد التهديد بالحرب الأهلية مع سقوط مرشحه نجيب ميقاتي، انصياعه للقرار اللبناني والدولي بوقف تمويل الحزب من إيران وعجزه عن ثني الدولة والجيش وجهاز أمن المطار عن القيام بأدوارهم السيادية في هذا المجال، وصولاً الى التعيينات العسكرية والأمنية إذ سقطت الفيتوهات التي كان قد رفعها الحزب بوجه بعض المرشحين الذين عينوا في المواقع في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة.
دلالة أخيرة على تنازل الحزب عن قضية فلسطين المركزية والتي أشعلت حروب الإسناد في المنطقة هي في ما قاله “المتبقي” من المحور الممانع زعيم جماعة أنصار الله اليمنية عبد الملك الحوثي في 16 آذار 2025 بعد استفراده من دون مساندة غامزاً من قناة إيران والحزب عن أن “جماعته” لن تفرّط أبداً في التزامها تجاه الشعب الفلسطيني ولو فرّط آخرون”.تنازلات الحزب أمام “الدولة” رغم “الانتصار”