هدى شديد.. زهرة تسقط أول الربيع

6161029_1728661767

تعتبر هذه المرّة من أصعب المرّات التي أُمسك فيها القلم لأكتب. تختلط الوجدانيات بمشاعر الحزن والأسى على الفراق، أكره الوداع، فكيف إذا كانت الراحلة هي الإعلامية هدى شديد، الإنسانة التي لا تعوّض والصحافية التي لا تملّ.

بين كل كلمة وكلمة دمعة فراق، ولوعة على خسارة امرأة مقاومة مناضلة كانت تملأ الشاشة الصغيرة فدخلت القلوب من الباب الكبير.

كل الأبواب والقلوب تُفتح أمامها، عشرات السنوات من العمل الإعلامي. إنطلقت في الميدان الصحافي وغطّت الحروب والكوارث والأزمات والامراض السياسية اللبنانية، إلى أن إلتقطت المرض البشع فانتقلت إلى المقاومة من نوع آخر، وعينها على الحدث.

من منا لا يُقدّر هدى شديد، فكيف الحال إذا كان لديّ تجربة شخصية معها، تجربة عرّفتني أكثر على هذه الإنسانة التي لم تسكر بمجد الكاميرا، ولم ترتو من المقالات التي كانت تخطّها على صفحات جريدة النهار وصحف أخرى.

مسيرتك يا هدى ناصعة البياض، رحلت يوم عيد الأم وفي أول أيام الربيع، ويوم أرادت الطبيعة أن تكلل جبال لبنان بالأبيض الناصع. عرفتك جيداً، الدهر لعب لعبته معك ومرض السرطان اللعين ضرب زوجك عند أول أشهر زواجك فحرمك نعمة الامومة. لكن شغفك وإنسانيتك دفعت بك إلى الإهتمام بعائلتك، فكانت أكبر مثال للأم.

من لا يعرفك يحبك، فكيف الحال بالنسبة لي، فأنا اكثر من يعلم ماذا تعني هدى وما تحتوي في داخلها، هدى إنسانة وصحافية منتفضة على الظلم، سواء في عائلتها أو مع أصحابها أو مع الناس، هي المرأة التي كانت رغم آلامها ومرضها ترفع المعنويات وتدعو إلى عدم اليأس والتامّل بالحياة. ثقافة الحياة عندها كانت أقوى من ثقافة الموت والإنهزام.

في مهنة الصحافة والبحث عن المتاعب، تعتبر “الغيرة” والحسد سمة بارزة، لكن مع هدى كان العكس، تقف إلى جانب الجميع، ووقفت معي في أصعب اللحظات، وكانت داعمة لي وللمرأة بشكل خاص.

أكتب عن هدى، والحزن يسيطر على القلب والروح، وهي التي واجهت كل الآلام بصبر وايمان لا مثيل لهما، وكانت المثال للمرأة المؤمنة الداعمة الهادفة المحبة.

كثيرة هي صفات هدى، ففي زمن الإنحطاط كانت هدى مثال الصحافية الرصينة الصادقة ذات المصداقية العالية، “لم يضرب البخار رأسها”، وكلما زادت تألقاً زاد معها مستوى التواضع.

المهنة تخسر ايقونة قاومت مرض السرطان وعايشت سلاطين السياسة. هي الشاهدة على حقبة ما بعد الحرب بكل نضالها وإضطهادها ومآسيها، عاشت فرحة التحرّر عام 2005، لكنها لم تشاهد لبنان الجديد. هي صوت الناس ووجعهم من دون أن تظهر وجعها. هي صورة جميلة راقية عن بلد حوّله سلاطين السياسة إلى بلد الأزمات والنكسات.

هدى شديد قدوة الإعلاميين، وصوت وصورة سيفتقدها الكثيرين، العائلة الصغيرة والكبيرة والجسم الإعلامي والسياسي. ترحل هدى والبلد ما يزال يعاني، تغيب هدى وصدى تغطياتها لا تزال عالقة في أذهان المتابعين. أطفأ الله محركات هدى لكنها ستبقى خالدة. هذه المرأة التي عرفت أنها سترحل وظلّت لساعاتها الأخيرة تقاوم وصعدت إلى القصر الجمهوري حيث كرمها الرئيس جوزاف عون قبل رحيلها، في حين درجت العادة ان تكرم الدولة رجالها ونساءها المهمين بعد رحيلهم، لتطلّ على اللبنانيين لتمنح فسحة أمل لمن لا يملك الأمل.

في أول الربيع تزهر الأزهار، فلماذا سقطت اوراقك يا هدى، فيا صديقتي إلى دنيا الخلود.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: