أرادوا إحراج توم باراك، فإذا به يُسمعهم من حلاوة اللسان فوق الطاولة، ومن مرارته تحتها، فأحرج الجميع:
أ – الدولة: قال للرؤساء إن موضوع سلاح حزب الله هو موضوع لبناني، فليتدبّر اللبنانيون أمره. وما يعنينا هو إمّا استلحاق لبنان نفسه برَكب التطوّر الإقليمي والمعادلات الجديدة، وإمّا أن يبقى كما هو، متخبّطًا بمشاكله الداخلية.
ب – الحزب: بقوله بوضوح إن مسألة سلاحه أمر متروك علاجه للبنانيين، ولا ضمانات أميركية لمنع أيّ تدخل عسكري إسرائيلي.
وبالتالي، جاءت مواقف المبعوث الرئاسي الأميركي توم باراك ضمن السياق الأميركي الأساسي، المدعوم سعودياً وخليجياً وعربياً وأوروبياً.
كان من المتوقع أن يلتقي باراك في بيروت المسؤول السعودي الأمير فيصل بن فرحان، لكن يبدو أن الأخير توصّل إلى استنتاجات من خلال جولة لقاءاته اللبنانية، خلاصةُها: “فالج لا تُعالج”.
وبالعودة إلى زيارة المبعوث الأميركي توم باراك، نسجّل الملاحظات التالية:
أولاً:
قال باراك إن الرد اللبناني جاء في سبع صفحات، ولم يتسنَّ له قراءتها بعد، ما يعني أن قناعاته النهائية ستتشكّل بعد الاطّلاع على “الغرائب والعجائب” الواردة في ردّ الثنائي الشيعي. وعندها، سنرى إن كانت لهجته ستتغيّر تجاه الموقف اللبناني أم لا.
ثانياً:
قوله إن حزب الله “حزب لبناني” يعني أن الإشكالية داخلية، وعلى اللبنانيين أنفسهم معالجتها. وهكذا، أعاد باراك الكرة إلى ملعب الدولة اللبنانية، ما يعني أن الدولة أصبحت، من الآن فصاعدًا، مسؤولة عن أي تقصير.
وبالتالي، لم تعد الملامة تُلقى على الحزب، بل على الدولة التي تتحمّل من اليوم فصاعداً تبعات مواقف وأعمال الحزب، الذي يرفض تسليم سلاحه ويُعرّض لبنان — دولةً وشعبًا ومؤسسات — مجددًا لنيران الحرب.
ثالثاً:
للأسف، وفي هذا الشق الأولي من ملف معالجة مسألة السلاح، أثبتت الدولة ضعفها وعجزها، ليس فقط عن اتخاذ قرارات حاسمة، بل عن تنفيذها وفق الآليات القانونية والعسكرية المحددة. وقد اكتفت الدولة حتى الآن بلعب دور الوسيط، بدل أن تكون الجهة الفاعلة، المقرّرة، النافذة، الحاسمة والحازمة، في مقاربة ملف السلاح، فلا يُعقل أن تتماهى مع وجهات نظر الرئيس نبيه بري وحزب الله.
وبات واضحاً، وضوح الشمس في كبد السماء، أن السلطة اللبنانية تتحدّث بلُغتين: واحدة ديبلوماسية فوق الطاولة تستعيد شعارات حصر السلاح وبناء الدولة القوية، وأخرى تحت الطاولة تجزع وتخشى حتى من وضع جدول زمني لتسليم السلاح، كلّ ذلك لأن “الحزب” يرفض التخلي عن سلاحه.
رابعاً:
قال باراك: “نحن كأميركيين لم نأتِ لتأنيب أو تربية الدولة، ولا لحلّ مشاكل لبنان الداخلية. ما نعتبره هو أن شرقًا أوسط جديدًا يتكوّن، ولكل دولة في المنطقة خيار: إمّا الالتحاق بالمشروع الإقليمي لتحظى بنصيبها من خيرات الاستثمار والتنمية كما في سوريا، أو البقاء على الرصيف، غارقة في الفشل والتأخر والبؤس”.
إذاً، الكرة الآن في الملعب اللبناني، مع ما يترتّب على ذلك من تعرّض لبنان، بكلّيته، لمزيد من الدمار والتخلّف وتفاقم الأزمات.
خامساً:
الرهان يبقى على الدولة، والدولة وحدها، شرط أن “تأخذ نفسها على محمل الجد”. فقرار سحب السلاح متّخذ منذ خطاب القسم والبيان الوزاري، ما يستوجب وضع جدول زمني تُقرّه الحكومة، ويتولّى المجلس الأعلى للدفاع تنفيذه.
سادساً:
للدولة قدرة تنفيذية، لكن ما نراه هو مسايرة وتدوير زوايا. فهناك مؤسسات، ورئيس الجمهورية يمتلك سلطة دستورية تمكّنه من إحداث تغيير فعلي. المطلوب هو التخفيف من الاستماع إلى الرئيس بري، الذي يُفترض به احترام مبدأ فصل السلطات، وعدم التدخّل في شؤون السلطة التنفيذية وقراراتها.
سابعاً:
بيان السفارة الأميركية أمس، بشأن إجلاء الرعايا من لبنان، يتناقض مع الأجواء الإيجابية التي يحاول لبنان الرسمي إشاعتها. فـ”دولة تنتظر رد حزب ميليشياوي ليست بدولة”، وبالتالي لا جديد يذكر، ولا أموال، ولا استثمارات، ولا تنمية للبنان.
ثامناً:
لماذا لا تعيد الدولة طرح “إعلان بعبدا” — الذي وُقّع في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان — على طاولة التنفيذ؟ فقد وقّعه الحزب، وهو تعهّد كتابي واضح، لا يزال صالحاً للتطبيق، وكذلك العودة إلى اتفاقية الهدنة وفق اتفاق الطائف. لكن يبدو أن الرد اللبناني جاء نسخة طبق الأصل عن موقف الرئيس نبيه بري والحزب، بكل صراحة.
فبينما باتت سوريا تتقدّم إقليمياً، لا يزال لبنان يدور في حلقة مفرغة، ويتهرّب من مواجهة التابوهات، وأوّلها سلاح الحزب. أما الرئيس بري، فهو مصطفّ بالكامل الآن إلى جانب موقف حزب الله، وإنْ كان ذلك ظاهريًا فقط.
تاسعاً:
إيجابية تصريحات باراك الإعلامية بشأن مساعي الدولة اللبنانية لحل مسألة السلاح لا تُخفي الحقيقة، إذ سرعان ما يتحدّث بمنطق مغاير: فلبنان يرى أن المشكلة بينه وبين إسرائيل، بسبب احتلال أراضٍ لبنانية وعدم تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية. أمّا باراك، فلم يتطرّق إلى هذه المواضيع، باستثناء حديثه عن فرص السلام مع إسرائيل، وتوجّه الإقليم وسوريا للتفاوض مع تل أبيب، معتبراً أن على لبنان أن يلتقط الفرصة.
ما يعني أن باراك حصر مشكلة سلاح حزب الله باللبنانيين، وسلّمهم زمام معالجتها، بما يعكس استمرار الموقف الأميركي الذي يُعطي الأولوية لمعالجة ملف السلاح، لا للوقوف على الاعتبارات اللبنانية الأخرى.
باختصار:
توم باراك يتصرّف بمنطق من يقول: اللهم اشهد أني بلغت…
وعلى الدولة أن تحسم أمرها قبل فوات الأوان، بانتظار نتائج ومفاعيل لقاءات واشنطن بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو… وأفيخاي بينهما… من غزّة إلى لبنان…