كتب جورج أبو صعب: يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، وعلى وقع بيانات وتصريحات الخارجية الأميركية والمسؤولين الكبار في واشنطن، تتوضح حقيقة الموقف الأميركي من الورقة اللبنانية الأخيرة.
المبعوث الأميركي، توم باراك، قال كلاماً خطيراً مرّ مرور الكرام وسط الفولكلور اللبناني الرسمي، بين تذاكٍ ولعب على إيماءات الجسد و”ضرب كشادبين” على الطريقة اللبنانية، خصوصاً عند الرئيس نبيه بري، الذي يخرج بتفاؤلات غريبة عجيبة في تصريحاته، ظناً منه أن الأميركي، بكلام منمق وجميل “دبلوماسياً”، أصبح مثل الخاتم بين يديه…
فأجواء المسايرة، والإيحاء بإيجابيات اللقاءات مع المبعوثين، جريمة غش جديدة تُضاف إلى جرائم الطبقة السياسية العميقة، لأنها غالباً ما تُخفي عكس ما يُعلَن ويُشاع.
من هذا المنطلق، نعود إلى الحقائق من دون تذاكٍ ولا تسويف ولا “طق حنك”، وفق الآتي:
واشنطن لم تُقِرّ بعد بمضمون الرد اللبناني، وإن كانت دوائرها في أجواء مضمونه الهزيل والخائب.
المبعوث توم باراك قال كلاماً خطيراً جداً في بيروت حين أعلن سقوط اتفاق وقف إطلاق النار الموقَّع في تشرين الثاني 2024، وفشل “الميكانيزم”، ما يعيدنا سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً إلى مرحلة ما قبل ذلك الاتفاق، أي إلى مرحلة الحرب مع إسرائيل.
فقد وُضِع لبنان أمام خيار صعب بفعل تعنّت وتذاكِي الثنائي الشيعي:
إما عودة الحرب، وقد جرّبها لبنان وكانت نتائجها كارثية على حزب الله وبيئته ولبنان عموماً، وإما السلام، أي الذهاب إلى الحلّ الشامل الذي سبقتنا إليه سوريا.
فالمسار الإقليمي على السكة، ولن ينتظر كثيراً لا أرانب ولا توليفات تلتفّ حول الكلمات والمعاني، ولا تصرفات أو تصريحات فولكلورية كاذبة ومسرحية توحي بعكس الحقيقة.
ما يعني أن استلحاقه، والركوب في مشاريعه الاستثمارية والسياسية والإنمائية، ضرورة، وإلّا فالاستمرار في التخلّف والأزمات والاستبداد الفئوي بمصير شعب ودولة بناءً على شعارات فارغة وأوهام لا تزال تُستحضَر.
قالها باراك بوضوح: لبنان سيكون متروكاً لقدره إن لم يُسلِّم حزب الله سلاحه بالكامل.
ولنتذكّر عندما منحت واشنطن إيران شهرين لحلّ برنامجها النووي ثم ضربتها عسكرياً بانتهاء المهلة بساعات…
فالتذاكِي مع المفاوضين الأميركيين، ومديحهم، والإيحاء بأنهم سوف يتخلّون عن المطالبة بسحب السلاح وحصريته، مسرحية هزلية فارغة وفاشلة، ونكاد نقول: غبية جداً.
وأقرب مثال: الولائم والصداقات الشخصية التي سادت بعض علاقات المسؤولين مع المبعوث السابق هوكشتاين والمبعوثة مورغان أرتغوس، والتي لم تمنع قصف إسرائيل للبنان، وبخاصة الضاحية الجنوبية والبقاع والجنوب، وحصول التوغّل واحتلال النقاط الخمسة.
بعد هذه المماطلة الجارية، ستُصبح إسرائيل اللاعب الفعلي مع لبنان، وسيكون أمام لبنان خياران: خطة انتحار مدمّرة أو الإلزام بالتطبيع إن لم يُسحَب السلاح.
إذا كان بإمكان حزب الله والشيخ نعيم قاسم إجبار إسرائيل على الانسحاب، فليتفضّل وليُرِنا، وقد أفقدته إسرائيل معظم قوته الاستراتيجية ولا يزال يرفض تسليم سلاحه ويستكبر…
إذا كان صبر الحزب قد نفد، فليُرِنا ما يمكن أن يفعله لسحب الاحتلال من الجنوب بالقوة؟
فليتفضل الشيخ نعيم قاسم ويُرِنا كيف يمكن لحزبه إجبار إسرائيل على الانسحاب من النقاط الخمسة بالقوة!!
لطالما نبّهنا الحزب وقيادته من عبثية وحماقة حرب ما أسموه “الإسناد”، ومن مغبّة مواجهة إسرائيل، إلى أن اكتشفوا – بعد خراب البصرة – تفوّق إسرائيل التكنولوجي وقدرتها على القضاء على قيادات الحزب من رأس الهرم، فاعترفوا بقوة العدو…
واليوم، يعودون إلى التهديد الفارغ والوعيد الممجوج…
واليوم أيضاً، ننبه الحزب وقياداته إلى أن الآتي عليه هذه المرة، إسرائيلياً، لن يقلّ شراسةً وقوةً عما حصل في الجولة السابقة، بل يتجاوزه إلى ما هو أكثر تدميراً وفتكاً…
ولا ينبري أحد للقول إننا صهاينة أو أننا نحشد لحرب إسرائيلية، لأن الوقائع والتجارب السابقة أثبتت صحة كل ما كنا ننصح به حزب الله وكوادره ورأيه العام.
الثنائي، ومعه لبنان، في عين العاصفة القادمة، ولن يكون ثمة مفرّ أمام لبنان سوى السلام والالتحاق بقطار النظام الإقليمي الجديد، لتجنّب الدمار والقتل والتخلّف، والوصول إلى الاستنتاجات التي تؤكد ما حذّرنا منه سابقاً ونحذّر منه الآن.
بعد “صك الاستسلام” الذي عاد وفشل – ونعني اتفاق تشرين الثاني 2024 – وبعد سقوط كل شعارات “تحرير القدس” و”رمي إسرائيل في البحر”، ومع الفشل الكارثي لحرب الإسناد، لن يبقى أمام لبنان إلا الخيارات الصعبة، وأهمها: التطبيع، لإنقاذ لبنان من الحالة المزرية اقتصادياً ومالياً واستثمارياً وسياسياً…
بالأمس، اعتُدي على اليونيفيل، ولم تُصدر الدولة قراراً بفتح تحقيق في ما حدث في عيتيت، ولم يُلقَ القبض على المعتدين على قوة حفظ السلام، في لحظةٍ تُجهد الدولة للتجديد لتلك القوات بدعم عربي وغربي، فيما تسعى إسرائيل لإلغاء تلك القوات الدولية…
ومن حق اليونيفيل، بموجب كافة المواثيق الرسمية والدولية، أن تقوم بدورياتها على كامل منطقة عملياتها دون مؤازرة الجيش، إلا إذا طلبت هي ذلك.
وفي مطلق الأحوال، من يحدد نطاق وطبيعة ومهام وصلاحيات اليونيفيل في الجنوب، هي الدولة اللبنانية وحدها، وفقاً للمواثيق والقرارات الدولية الملزِمة والمرعية الإجراء، وليس حزب الله أو أمينه العام أو “الأهالي”…
ظاهرة تدلّ على جبن الحزب، الذي بات يتلطى وراء “أهله” لحماية سلاحه بدل العكس.
يبقى أن على الدولة اللبنانية إخراج البلاد من هذه الدوّامة قبل فوات الأوان، وإلا ستتعرّض بناها التحتية ومؤسساتها ومواقعها الحيوية للتدمير بنفس قوة تدمير سلاح الحزب…
والمطلوب: الانتقال من مرحلة النوايا إلى مرحلة الإجراءات، أو على الأقل تحميل الحزب رسمياً مسؤولية التعنّت وجرّ لبنان إلى حرب جديدة.