كتب طوني عطية في "نداء الوطن"
تفقّد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، رعيته الصامدة في الشريط الحدودي التابعة لأبرشية صور، وهي دبل، رميش، عين إبل، القوزح وعلما الشعب. إنها الجولة الأولى بعد حرب الإسناد التي أشعلها "حزب الله"، وفتح معها أبواب الموت والنزوح والخراب. تحمل الزيارة في توقيتها دلالات مهمّة، إذ أتت بعد أن حسمت الدولة أمرها في مسألة سحب السلاح غير الشرعي، ومحاولات "الحزب" الانقلاب على القرار باستعمال آخر أوراقه المتهاوية ألا وهي "الشعب" ودرّاجات "الشغب" النارية.
ليس مفاجئًا أن تكون الكنيسة حاضرة في لحظات المصير، وخصوصًا في الجنوب. قبل 105 أعوام، دفعت القرى المسيحية التي زارها الراعي أمس، مجازر وتهجيرًا بسبب تأييدها لـ "لبنان الكبير" ورفضها الانضمام إلى حكومة فيصل آنذاك. وحافظت هذه البلدات على تاريخها وثقافتها وانتمائها الثابت للبنان أولًا. هي علامة على حضور الدولة وهوية الجنوب اللبنانية في وجه المشاريع المستوردة، أو كما وصفها أحد المعارضين الشيعة بأنها "قرى الدولة". هذا ما جنّبها إلى حدّ كبير ويلات الحرب الأخيرة، على الرغم من نزوح العديد من أبنائها خلال المعارك، وتضرّر بعض القرى بشكل كبير مثل علما الشعب والقوزح، بسبب توغّل عناصر "الحزب" بين منازلها واستعمالها منصات صاروخية.
زيارة الراعي والوفد المرافق الذي ضمّ السفير البابوي المونسنيور باولو بورجيا الذي زار الشريط الحدودي أكثر من مرّة خلال الأزمة، راعي أبرشية صور المارونية المطران شربل عبدالله، المعاون البطريركي للشؤون الإدارية والرعوية المطران الياس نصّار، رئيس كاريتاس لبنان الأب ميشال عبود وفريق العمل البطريركي، حملت رسالة دعم معنوي وإيماني من جهة، وإنمائي وخدماتي من جهة أخرى. فالكنيسة ساهمت بشكل كبير عبر علاقاتها الخارجية ومؤسساتها وعلى رأسها "كاريتاس"، في تطمين أهل تلك القرى وحثّهم على البقاء خلال الحرب ومدّهم بمقومات الصمود من مواد غذائية وطبيّة ومحروقات، إضافة إلى مساعدات مدرسية.
في كلمته الأولى، اختصر البطريرك فحوى زيارته بموقف حازم: "لا للحرب… نعم للسلام". وقال إنّ "الحرب عابرة والسلام باقٍ؛ الخوف عابر والرجاء باقٍ. الرجاء صخرة وهو لا يخيّبنا. معكم نصلّي لأجل السلام وانتهاء الحرب كونها ضدّ جميع الناس. نصلّي من صميم قلوبنا لأجل سلام دائم وعادل. لبنان يحتاج إلى السلام وهو من طبيعته وطبيعة ناسه". وحمّل المواطنين كما المسؤولين مسؤولية السلام ومعه الاستقرار، غامزًا من قناة العابثين بأمن الوطن والرافضين منطق سيادة الدولة.
في كل محطة، لا سيما في رميش ودبل وعين إبل، كان الراعي يُعبّر أمام الحشود لدى استقبالهم له، عن فرحته وإعجابه بحيوية هذه القرى ونسبة المقيمين فيها رغم الأزمات والتحديات الأمنية والمعيشية. كما لفته تمسّك الأهالي بعاداتهم وأنشطتهم الصيفية من مهرجانات وحفلات وأعراسٍ. أمّا في القوزح، فعبّر البطريرك عن حزنه، إذ لم يبقَ فيها سوى "72 شخصًا فقط"، آملًا "أن يعود الجميع وأن تعود هذه البلدة إلى سابق عهدها. القوزح مستمرة وثابتة، وهي في حاجة إلى إعادة إعمار، ونحن معكم".
في رميش التي ازدحمت كنيسة التجلّي بالمؤمنين، كان في استقباله ممثل رئيس الجمهورية جوزاف عون النائب ميشال موسى، وزميله في "كتلة التنمية والتحرير" النائب أشرف بيضون، قائمقام بنت جبيل شربل العلم، إلى جانب كاهن الرعية الأب نجيب العميل وفاعليات سياسية وبلدية واجتماعية.
وفي حين كان رأس الكنيسة المارونية يوجه رسالة تضامن ومحبّة إلى كلّ ضحايا الجنوب، عندما قال إنهم "إخوة لنا في الإنسانية والوطنية"، كان العديد من "البيئة" التابعة لـ"الممانعة"، يُكيلون الشتائم والتخوين بحق الراعي ويصفونه بـ"بطريرك الصهاينة واللحديين القدامى والجدد"، إذ بات هذا الجمهور معاديًا لكل اللبنانيين. مع العلم وإنعاشًا للذاكرة، أن الراعي كان أول بطريرك زار مدينة بنت جبيل عام 2011، ومن يشتمونه اليوم كانوا في استقباله. حينها لم يكن "عميلًا" بنظرهم. وفي 2012، ولدى جولة راعوية في الولايات المتحدة الأميركية، نظّم نادي بنت جبيل الثقافي في ميتشغن حفل استقبال على شرفه.
أمّا المحطة الحدودية الأخيرة، فكانت في علما الشعب المنكوبة، إذ كان اللقاء مؤّثرًا جدًّا، وختم الراعي كلمته مجدّدًا موقفه الذي افتتح به جولته، بالدعوة إلى إحلال السلام ثمّ السلام.