كتب نقيب محرري الصحافة جوزف القصيفي في "الجمهورية":
في الذكرى الثالثة والأربعين لغياب بشير الجميل التي تحلّ غداً الأحد، يتجاوز اللبنانيون الاعتبارات والأسباب التي أدّت الى إغتياله، كما السجالات المتباينة حول الجهات والأيدي الخفية التي حرّكت الخلية التي قامت بهذه العملية غير المسبوقة، والتي تكرّر ما يماثلها بعد 7 سنوات باغتيال رينيه معوض، ولم يتسن لأي من الرئيسين اللذين انتُخبا في أوضاع استثنائية محفوفة بالأخطار والصعاب، أن يُمسك بزمام الحكم، ولو أنّهما أقسما اليمين الدستورية.
قد يختلف اللبنانيون في قراءتهم السياسية لشخصية بشير والدور الذي كان يُنتظر أن يضطلع به. وكان انتخابه حدثاً كبيراً، وتحوّلاً عميقاً تداخلت فيه عوامل دولية وإقليمية، لكنه حصل في ظل وضع غير مستقر، وخاضع لتبدّل موازين القوى، ما فتح ثغراً لم يسعفه الوقت لسدّها، لأنّ يد الاغتيال كانت الأسرع. لكن اللبنانيين يحفظون عنه شخصيته “الكاريزمية” الجاذبة، تمسّكه بدولة لبنان الكبير وهو صاحب شعار 10450كلم2، إيمانه بعنصر الشباب ورهانه عليه، محاربة الفساد وتطبيق القوانين، ضبط الإدارة، وهذا ما تمّ تلقائياً غداة انتخابه لجهة إحترام الموظفين للدوام الرسمي، واجتهادهم في إنجاز المعاملات وتوقف الرشوة.
في اختصار، إنّ بشيراً خلال الفترة الوجيزة التي كان فيها رئيساً قبل اغتياله “هزّ سيف العزّ من دون ان يضرب به”. وكانت النتيجة ظاهرة ملفتة استقطبت إهتمام الرأي العام. وكان الإبن الأصغر لرئيس “الكتائب” بيار الجميل عالماً بدقائق الكيمياء اللبنانية التي تهادت اليه من والده، فانكبّ على طمأنة المكونات اللبنانية كافة، من خلال رغبته التي أبداها في اجتماعاته مع سائر القوى وفريق عمله، في بناء شراكة وطنية حقيقية تقوم على الثقة والمصارحة، والتعاون، لاستعادة لبنان من براثن التنين الذي كاد يبتلعه. وهو بعث بأكثر من رسالة إيجابية إلى الطائفة الشيعية عبر ممثليها في الندوة النيابية فترتذاك، وإلى قواها الحيّة على الارض بإنصافها، والاستماع إلى هواجسها، وتعزيز دورها في النهوض بمؤسسات الوطن. كذلك كان حواره مع الرئيس صائب سلام باباً لإسقاط الحذر الذي تشكّل حياله لدى الطائفة السنّية، وإنّ شهادة سلام فيه قبل اغتياله وبعده، هي الدلالة على قدرة هذا الرئيس الشاب على التكيّف مع الوقائع والواقع، والتوغّل في سرائر التركيبة اللبنانية ومعرفة طريقة التعامل معها واستيعابها، بما يسهّل عليه قيادة عملية تحوّل نوعي في الحكم.
وبعكس ما يظن البعض، فإنّ بشير الجميل، ووفق معلومات خاصة توافرت لديّ في حينه ومساعٍ وقفت عليها شخصياً، كان حريصاً أشدّ الحرص على الاستقرار في الجبل، وبذل ما استطاع من جهد ليجنّبه أي خضّة أو صدام، وله خطبة شهيرة حذّر فيها أفراد “القوات اللبنانية” من أبناء هذه المنطقة العائدين إلى بلداتهم وقراهم، خصوصاً المختلطة منها، من الإساءة إلى أبناء طائفة الموحدين الدروز أو إلى شهدائهم إلى أي حزب انتموا.
في الحقيقة كان بشير الجميل رجل مرحلته، وهو لم يتنكّر يوماً لصيغة لبنان التعددية، أو سعى لتجزئة أو تقسيم، ولم يفكر بفدرالية، ولو قال إنّه دفن الصيغة ووضع حراساً على قبرها لئلا تدحرج الحجر وتقوم في اليوم الثالث. لقد كان يقصد بكلامه صيغة التسويات الهشة التي تقوم على المخادعة، والمواربة والهروب إلى الأمام زمن الاستحقاقات الصعبة. كان يرى أنّ من يكتم علّته يموت بها، لذلك توجّه إلى محازبيه طالباً منهم قول الحقيقة مهما كانت صعبة.
هل أخطأ بشير وأين؟ هل أصاب بشير وأين؟ في خضم الحياة العامة هناك من يخطئ ومن يصيب. فالعصمة لله. لكن بشيراً - باعتراف خصومه قبل مناصريه- كان نمطاً مختلفاً من السياسيين في الفترة التي سطع فيها نجمه. كان غير تقليدي ورَفَد الحياة السياسية بتيار شبابي ينهد إلى التغيير النوعي لا الانقلاب على المؤسسات، بل عَمَد إلى فرض تغيير في أسلوب عملها وترشيق حركتها والإفادة من طاقاتها. على أنّ المؤسسات الرديفة التي أطلقها على المستوى الإنمائي والخدمات، لم تستهدف إلغاء نظيراتها الرسمية، بدليل دعوته بعيد انتخابه إلى حلّ “القوات اللبنانية” وكل المؤسسات غير الرسمية التي تتعاطى شؤوناً خدماتية، والعودة إلى الدولة التي يفترض أن تضمّ الجميع، وأن تفعّل أجهزتها باعتماد الشفافية وأحدث التقنيات واستقطاب الكفايات العليا والمهارات.
بعيد انتخابه رئيساً لم ينتظر اللبنانيون كثيراً ليعرفوا أنّ بشير المقاوم والمقاتل، هو شخص مختلف عن بشير رجل الدولة. فلكل مرحلة اعتباراتها ودوافعها وظروفها، وأساليب عملها. ولا تجوز مقاربة كل مرحلة بمعايير الأخرى. ولعلّ الروح التي أضرمها في لبنانيي الانتشار كانت مؤشراً إيجابياً يمهّد لتكاملية بين جناحي الوطن، وتؤسس لتعاون تفاعلي بعيداً من نظرية “البقرة الحلوب”.
كان بشير الجميل فرصة أسقطها الاغتيال ولم تأخذ مداها. الاغتيال حرم لبنان من هذه الفرصة التي لا يحق لنا التكهن بمآلاتها، لأنّها لم تعمّر أكثر من 21 يوماً. لكن المكتوب عادة يُقرأ من عنوانه. عرفت بشير الجميل منذ العام 1969، وأحتفظ بالكثير الكثير لأقوله عنه في مرحلة لاحقة. لكن من باب الإنصاف، إنّ لبنان كان يستأهل رجلاً بحجمه، يحترف الصدق والصراحة. جرأته كانت تدفعه إلى عدم ارتداء القفازات. أسلوبه مباشر، بل موجع احياناً، لأنّه كان شديد الثقة بنفسه، ومؤمن انّه يستطيع تقديم الكثير لوطنه. كان في بعض الأحيان عنيفاً وصاخباً كنهر جارف، لكنه لا يلبث أن يتحول إلى جدول رقراق بعد أفول العاصفة. هذا هو شأن المميزين من الرجال الذين يخلفون البصمات البارزة. لكن السؤال الذي لم يبارح ذهني منذ اللحظة التي قضى فيها بشير: هل استعجل الوصول إلى الرئاسة الأولى في غير أوانها، وكان قراره بالمضي في معركتها مصدر إزعاج للاعبين كبار على مسرح الشرق الاوسط، أرادوا للبنان أن يبقى ساحة، لا وطناً قوياً كما حلم به وسعى اليه، فكان له القدر الغاشم والظالم بالمرصاد. وكان ما كان من أمر رئاسته التي استقطبت آمال اللبنانيين، قبل أن يحبطوا ويستفيقوا ليجدوا أنفسهم في دائرة واقعهم البائس؟