كتب شارل جبور في صحيفة "نداء الوطن":
دعا الشيخ نعيم قاسم المملكة العربية السعودية والقوى السياسية في لبنان إلى فتح صفحة جديدة مع "المقاومة" بحجة أن "ما بعد ضربة قطر، يختلف عما قبل ضربة قطر"، وأن "إسرائيل هي الخطر وليس المقاومة، وخطرها شامل الجميع: المقاومة، الأنظمة والشعوب، ويجب ان نتخِّذ الإجراءات لإيقاف العدو، لا أن نساعده على المقاومة وعلى مشروعه التوسعي".
يدلّ موقف الشيخ نعيم على أنه ما زال متمسكًا بدوره وسلاحه، والأسوأ أنه يوجّه دعوة إلى الأنظمة والشعوب للالتحاق بمشروعه، على الرغم من الهزيمة التي مُنيَ بها، والمآسي التي حلّت بالشعب اللبناني وشعوب المنطقة بسبب هذا المشروع. فلم يتعِّظ، ولن يتعِّظ، ويظنّ أن الاستياء العربي من انتهاك إسرائيل للسيادة القطرية باستهدافها قادة "حماس" على أرضها سيؤدي إلى مصالحة الأنظمة والشعوب مع محوره، ويُعاد منحه فرصة ليواصل مشروعه الخاص الذي خدم المشروع الإسرائيلي على حساب المشروع العربي.
وقد دلّت دعوة الشيخ نعيم على أنه يعيش في زمن آخر، في زمن مضى، رافضًا تقبُّل فكرة أن مشروعه انتهى، وأن هذا المشروع كانت له ظروفه الإقليمية، بدءًا من سوريا الأسد، وصولًا إلى إسرائيل التي كانت تمنحه شرعية الاعتراف بوجوده كعدو يقاتلها وتتعامل معه وفق قواعد اشتباك، وما بينهما لبنان المغلوب على أمره.
فلا وجود لإيران في الصراع مع إسرائيل لولا تحالفها الاستراتيجي مع الأسد، ولولا وضع الأسد يده على لبنان وفتحه الطريق أمام إيران. ومع سقوط الأسد، ونشوء نظام ينسِّق أمنيًا مع إسرائيل ويواجه ما تبقى من شبكات إيرانية إرهابية على أرضه، تكون إيران قد خسرت ورقتها في لبنان، وخسرت معها قدرتها على التأثير في القضية الفلسطينية. والفكرة التي كانت استحدثتها إيران بعد إخراج الثورة الفلسطينية من لبنان، أن أي ثورة تنطلق من النسيج الداخلي للبلد لا يمكن إخراجها منه ولو هزمت عسكريًا، وعاشت ذراعها في لبنان حقبة ذهبية بفعل تسليم إسرائيل بوجودها وترسيم قواعد اشتباك معها بدأت منذ العام 1996، وكانت بعد كل حروب تخوضها ضد "حزب الله" وتنتصر فيها عليه تعود إلى قواعد الاشتباك التي شكلت أكبر خدمة استراتيجية لـ "الحزب"، الذي يعتبر أن مجرّد وجوده يعني انتصاره، وذلك بمعزل عن الخسائر البشرية والمادية التي لا تعدّ ولا تحصى بسبب حروبه العبثية.
والفارق الجوهري والاستراتيجي هذه المرة عن المرات السابقة منذ عام 1996 هو أن إسرائيل قرّرت الإطاحة بقواعد الاشتباك، ومواصلة الحرب ضد "حزب الله" ومنعه من إعادة تكوين قوته، فحولته إلى "مقاومة" صوتية، وعرّته أمام بيئته وخصومه بأنه هزيل وعاجز. وبإمكانه الادعاء قدر ما يشاء أنه طالما ما زال يرفع شارة النصر، فهذا يعني أنه ما زال موجودًا، لكن وجودًا صوتيًا بلا دور عملي، لأن تل أبيب أنهت دوره العسكري بالقوة، وآخر همها تهديداته غير القابلة للصرف.
ومع إخراج إسرائيل إيران من الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني عبر إنهاء ذراعها في لبنان عسكريًا، وإقفال حدودها مع سوريا جغرافيًا، فقد جاءت دعوة الشيخ متأخرة جدًا. فعدا عن أن تل أبيب التي انتصرت على محور الممانعة لن توقف حربها قبل إنهاء ذيول هذه الأذرع، فإن المملكة العربية السعودية تريد أفضل العلاقات مع إيران، لكن على قاعدة عدم تدخلها في شؤون الدول العربية، كما تريد أفضل العلاقات مع جميع اللبنانيين، لكن على قاعدة الالتزام باتفاق الطائف وسقف الدستور والدولة.
ولا حاجة للتذكير بأن "حزب الله" شكل رأس حربة لإيران ضد السعودية والدول الخليجية واتفاق الطائف، وأن الثقة بهذا المحور معدومة، وأن الخلاف معه يكمن في النظرة والرؤية، حيث أن الصراع العسكري الذي اتّبعه أساء كثيرًا، وفرض بالقوة على الدول العربية، ولا أحد أساسًا في وارد أن يُنعش ميتًا ليرتد عليه.
ولا صفحة جديدة لبنانيًا مع "حزب الله" قبل أن يسلِّم سلاحه ويُعلن بالفم الملآن انتهاء مشروعه المسلّح ويلتزم بسقف الدولة والدستور. ويجب أن يعتبر "الحزب" ذلك نعمة لعدم مطالبته حتى الآن بتعويض عن عقدين على الأقل، حرم خلالها اللبنانيون من حياة طبيعية ومستقرة.
إن صفحة ما يسمى المقاومة قد طويت إلى غير رجعة، وما لم يدرك "حزب الله" ذلك، سيواصل عدّ الخسائر. فهذه الصفحة السوداء من تاريخ لبنان والمنطقة طويت وانتهت. والمطلوب من الشيخ نعيم، بدل دعوته السعودية واللبنانيين إلى الالتحاق بمشروعه الماضوي والتخريبي والتدميري الذي فقد صلاحيته إلى الأبد، أن يلتقي مع السعودية على رؤية 2030، وأن يلتقي مع اللبنانيين على تطبيق الدستور وبناء وطن آمن ومستقر.