في زمنٍ تتشابه فيه الأصوات مفتقدةً للتميّز، وتتكرّر فيه الأنغام بلا روح، يطلّ الفنّان اللّبناني ملحم (Mel7em) كمن يفتح بوّابةً إلى عالمٍ يُعانق الماضي بالحاضر، ويجمع الشِّعر القديم مع الإيقاعات الإلكترونيّة الموسيقيّة الحديثة في انسجامٍ نادر. فالموسيقى التي يقدّمها ليست مجرّد التقاء أصواتٍ أو نغمات، بل هي تجربة روحيّة تتخطّى حدود السّمع لتلامس القلب والوعي، ورحلة تتنقل بين التاريخ والأسطورة، بين حضارة بعلبك القديمة وفضاءات المهرجانات العالميّة المعاصرة. من الآلات الفينيقيّة التي تحمل صدى آلاف السّنين إلى التردّدات الكونيّة التي تعيد ترتيب إحساسنا بالزمن والمكان، يرسم ملحم لوحةً موسيقيّةً حيث لكلّ نغمة رسالة، وكلّ عرض يحوّله إلى رحلة يتشارك فيها الجمهور معه في حكاية متجدّدة عن الهويّة والفن والإنسانيّة.
انطلقت الرّحلة الفنيّة لملحم، من حبّه وشغفه العميق بالتراث العربي العريق وبالتراث الفينيقيّ الغنيّ، وبقصائد الشعر الصّوفي التي تنبض بالرّوحانية والحنين إلى ما هو خالد وعميق. كان mel7em – كما يسمّي نفسه عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ - يدرك منذ البداية أنّ هذه الكنوز الأدبيّة والثقافية بحاجة إلى صوتٍ جديد ولغةٍ موسيقيّة حديثة تعيدها إلى الحياة وتمنحها فرصة للتواصل مع الأجيال المعاصرة. لم يجد دعمًا ماديًّا أو معنويًّا كافيًا، لكنّ قناعته الدّاخليّة القويّة كانت الدّافع الحقيقيّ للاستمرار والمضيّ قدمًا رغم كلّ الصّعاب.
كلّ تحدّ حافز
يقول ملحم لـ "نداء الوطن" إنّ الجمهور لم يكن دائمًا مستعدًّا لتقبّل مزيجه الموسيقيّ غير المألوف، فضلًا عن غياب الدّعم لهذا النوع الفنيّ. إلّا أنّ كلّ تحدٍ واجهه تحوّل إلى حافز وجعل من الصّعوبات وقودًا لإصراره، ليصبح مساره الفنيّ أكثر عمقًا وجرأةً، وكلّ تجربة يمرّ بها تصقل رؤيته وتثري إبداعه الفنيّ.
كلّ عمل موسيقيّ يقدّمه ملحم، تبدأ رحلته بالبحث الدّقيق والمتعمّق في نصوص الشعر الجاهليّ والقصائد الصّوفيّة، وأحيانًا يمتدّ هذا البحث إلى نصوصٍ بلغات اندثرت عبر التّاريخ، تحمل في طيّاتها حكمة الشّعوب القديمة. بعد ذلك، يقوم ملحم بإعادة صياغة هذه النّصوص وتحويلها إلى ألحانٍ حيّة، تنسج حوارًا متناغمًا بين الأصوات التقليديّة العتيقة والمركّبات الإلكترونيّة المعاصرة، بحيث يخلق توازنًا فنيًّا فريدًا بين روح الماضي ونبض الحاضر.
"بعل" نموذجًا
من أبرز إصدارات ملحم، أغنية "بعل" التي تمثّل نموذجًا حيًّا لرؤيته الفنيّة، حيث يكشف أنه انطلق في صياغة هذا العمل من بحثٍ دؤوب في النقوش الفينيقيّة القديمة. توقّف طويلًا عند الأحرف المحفورة عليها وانتقى منها حرفين فقط، ليبني على أساسهما لغةً جديدة صاغ منها كلمات الأغنية، وكأنّه يستحضر من رحم الأبجديّة الفينيقيّة حياةً موسيقيّة معاصرة.
تبدأ "بعل" كترانيم صلاة خافتة، قبل أن تتحوّل تدريجيًّا إلى موّال يفيض بعظمة حضارة بعلبك والفينيقيّين، ثمّ تنفتح على لقاءٍ حيّ بين الإيقاعات العصريّة والدّبكة اللبنانيّة الأصيلة، لتبلغ ذروتها مع إيقاع "تكنو" سريع يخلق دورةً مكتملة، أقرب ما تكون إلى طقسٍ موسيقيّ أو صلاةٍ جماعيّة يتّحد فيها الجمهور مع اللّحن، في تجربةٍ روحيّة تتجاوز حدود الزمان والمكان.
طقوس صوتيّة وروحيّة
على صعيد الحفلات التي يحييها الفنان ملحم، يصف الأخير العروض التي يقدّمها بأنّها ليست مجرّد حفلات أو عروض منسّق موسيقيّ (DJ) تقليديّة، بل يسمّيها "رحلات موسيقيّة"، تجارب كاملة تتجاوز حدود الصّوت والإيقاع لتصل إلى مساحةٍ روحيّة وفلسفيّة أوسع. في هذه العروض، يستخدم ملحم تردّد "432Hz" الذي يُعتبر الأقرب إلى ذبذبات الطّبيعة والكون، بهدف خلق حالة انسجام داخليّ وارتباط عميق بين المتلقي والموسيقى، بحيث يشعر كلّ حاضر بأنّه جزء من طاقة كبرى تتجاوز الزمان والمكان. الموسيقى عنده إذًا ليست مجرّد أداة للرّقص أو التسلية، بل تجربة متكاملة تشبه الطّقس الرّوحي، تتشابك فيها عناصر متعدّدة: الشِّعر الذي يحمل المعاني القديمة والحكايات الخالدة، الأداء الحيّ الذي يُضفي بعدًا بصريًّا ووجدانيًّا، والرّقص الذي يحرّر الطّاقة الدّاخليّة للجمهور. بهذه الطّريقة، تنتقل التّجربة بالمستمع من حدود الواقع المألوف إلى فضاءاتٍ أوسع من الوعي والانفتاح، لتصبح الموسيقى وسيلةً للاتّحاد بين الحواس والرّوح، وجسرًا بين الفرد والعالم، بين الماضي والحاضر، وبين الإنسان والكون نفسه.
سفير السّلام
نال ملحم لقب "السّفير العالمي للسّلام". لقب لم يأتِ من فراغ. فكلّ عمل فنّي يقدّمه الفنان "الفينيقيّ" هو جسرٌ بين الحضارات والأديان والثقافات، ورسالة عمليّة أكثر من كونها شعارات.
قدّم ملحم الموسيقى التّصويريّة لأعمال عرضتها "نتفلكس" و "شاهد VIP". برأيه يختلف الأمر هنا عن العروض الحيّة. فالموسيقى التصويريّة تخدم القصّة على الشاشة، بينما تمنح العروض الحيّة الحريّة للتجريب والتفاعل المباشر.
كما صاغ الفنان الشاب ألحانًا لعلاماتٍ تجاريّة فاخرة مستخدمًا مزيجًا من الآلات القديمة واللّمسات الإلكترونيّة، مجسّدًا الفخامة والخلود. وشارك في "إكسبو دبي" مثبّتًا أنّ الموسيقى اللّبنانيّة قادرة أن تكون لغة عالميّة للسلام، لا مجرّد عرض فنيّ.
المستقبل حلم وإبداع
ينظر الفنان ملحم إلى المستقبل بعين الحلم والإبداع، متطلّعًا إلى استحضار لغاتٍ سومريّة وأكديّة قديمة في أعماله المقبلة، لابتكار تجارب موسيقيّة جديدة من نوعها، تجمع بين العمق التاريخي والخيال الصّوتي المعاصر. أكثر من ذلك، يسعى ملحم إلى تأسيس منصّةٍ تعليميّة متكاملة، تُتيح للأجيال الجديدة فرصة التّفاعل مع التّراث العربي وإعادة صياغته بلغة العصر، ليصبح جسرًا يربط بين الإرث الثقافي والابتكار الموسيقيّ.
فالموسيقى في نظر ملحم ليست مجرّد فنّ يُؤدّى على الخشبة بل هي فعل حياة، وجسرٌ يصل بين ذاكرةٍ غابرة وحاضرٍ متجدّد. إنّها طاقة قادرة على أن تُنعش التّراث وتمنحه نبضًا جديدًا، لتبقى الأصالة حيّة في قلب الزّمن، فيما تنفتح الأبواب واسعة نحو مستقبلٍ بلا حدود تتداخل فيه الحروف القديمة مع أنغام الغد، فيغدو اللّحن ذاكرةً حيّة وثقافةً نابضة بالحياة.