المطران عودة: الأوطان نُبنى بالحوار تحت حماية جيش واحد

WhatsApp Image 2025-10-05 at 12.43.28_c01b5977

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس.

وبعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى المطران عودة عظته، مشيراً إلى أن "الكلمة الالهية تكشف لنا دائماً وجه الآب السماوي، وتدعونا إلى أن نحيا في شركة رحمته. في المقطع الإنجيلي الذي سمعناه اليوم، يضعنا الرب يسوع أمام دعوة تتجاوز حدود الطبيعة البشرية، إذ يفتح أمامنا طريق المحبة الكاملة، تلك التي لا تقف عند حدود المصلحة ولا تقاس برد الميل، بل تتخطّى كل انتظار بشري لتصير صورة عن محبة الله غير المحدودة. فالرب لا يرضى أن نقف عند محبة من يحبنا، ولا أن نكتفي بالإحسان لمن يحسن إلينا، بل يريدنا أن ندخل في سر رحمته العميقة، فنحب حتى الأعداء، ونحسن إلى الذين لا يستحقّون، ونقرض بدون أن نرجو مكافأة".

وتابع: "أحبّوا أعداءكم وأحسنوا واقرضوا غير مؤملين شيئاً... كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم". هذه الوصية ليست بشرية، بل هي انعكاس لجوهر الله نفسه، لأن الله "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين" (متى 5:45) ويغمر الكل برحمته، ولا يحصر خيره في المستحقّين. لذلك، فإن من يسلك في هذه المحبة يعلن بنوته لله، إذ يتشبّه بالآب الذي لا يرد الشر بالشر، بل يفيض رحمة حتى على الأشرار وغير الشاكرين. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن هذه الوصية ترفع الإنسان إلى مقام إلهي، لأن الذي يحب عدوه قد تحرّر من قيود الطبيعة وارتباطات الأرض، وسار في طريق المسيح نفسه. فمحبّة الأعداء ليست فضيلة عادية بل هي قمّة الفضائل، بها يصير الإنسان شريكاً في طبيعة الله الرحيمة".

أضاف: "يقول القديس كيرللس الإسكندري إن المسيح لم يكتف بأن يعلّم هذه المحبّة بلسانه، بل جسّدها في حياته وموته. على الصليب أظهر قمّة الرحمة إذ غفر لصالبيه، وعلّمنا أن الغفران هو الطريق الوحيد للانتصار على الشر. بهذا المثال صار هو المعلّم والمقياس، وصرنا نحن تلاميذه، مدعوين إلى أن ننهل من قلبه الواسع قوّة لنحبّ مجاناً، حتى من لا يطاق. فلا أحد يستطيع أن يحقّق هذه الوصية من ذاته، لأنّها تفوق الطبيعة البشرية، لكنّها تصير ممكنة بالاتّحاد بالمسيح، المحبّة المطلقة والرحمة المطلقة والكمال".

وأردف عودة: "بدوره، يشير القديس مكسيموس المعترف إلى أن محبّة الأعداء هي العلامة الأكيدة لتحرّر الإنسان من سلطان الأهواء. فمن لا يزال تحت وطأة الغضب أو الكبرياء أو حب الانتقام يستحيل عليه أن يحب عدّوه. لكن من تنقّى قلبه بالنعمة يصير قادراً أن يرى في الآخر، حتى في المسيء إليه، صورة الله التي لا تمحى. هكذا تتحوّل وصية الإنجيل إلى علاج للنفس، ترفع الإنسان من عبودية الانفعال إلى حرّية الروح. هذه المحبّة ليست شريعة مفروضة من الخارج، بل دواء يشفى به القلب من سموم الحقد والكبرياء والأنانية والبغضاء. يعتبر القديس إسحق السرياني أن محبّة الأعداء هي قمّة الكمال المسيحي. فمن بلغ إلى هذه الدرجة قد دخل في سر المسيح نفسه، لأن المسيح هو المحبّة المطلقة التي احتضنت الجميع، حتى الرافضين والمجدّفين. هذه القمّة ليست امتيازاً لقليلين، بل هي الدعوة الموجّهة لكل من يحمل اسم المسيح، لأن المعمودية قد جعلتنا شركاء في حياة الابن، والابن هو "الذي أحبّنا وأسلم نفسه من أجلنا".

وقال: "يا أحبّتي، لا نتعاملن مع الرحمة والمحبّة كتعليم مثالي بعيد عن الواقع، بل كطريق عملي للحياة اليومية. ففي علاقاتنا وعائلاتنا ومجتمعاتنا كثيراً ما نجد أنفسنا أمام مواقف إساءة وجفاء وظلم. تميل الروح البشرية إلى رد الصاع صاعين، لكن المسيح يعلّمنا أن قوّة الملكوت لا تظهر بالانتقام بل بالمحبة. قال الرسول بولس: "لا يغلبنك الشر بل أغلب الشر بالخير" (رو 12:21). بهذا فقط نشهد لعمل الله فينا ونزرع سلاماً في عالم يئن من الانقسام والكراهية والظلم والقتل".

ولفت إلى أن "المحبّة التي يدعونا إليها الإنجيل ليست عاطفة عابرة. هي فعل إرادة متجذّر في الإيمان، وهي لا تنتظر اعترافاً ولا شكراً، بل تتدفّق كما يتدفّق نبع الماء الحي. "إن أحببتم الذين يحبونكم فأيّة منة لكم؟ فإن الخطأة أيضاً يحبّون الذين يحبونهم". هذه المحبّة صامتة أحياناً، مؤلمة أحياناً أخرى، لكنّها في جوهرها مشاركة في حياة الله نفسه. من يتذوّقها يكتشف أن العطاء أعظم من الأخذ، وأن الغفران أعمق من الانتقام، وأن السعادة الحقيقية لا تنال بالسيطرة على الآخر أو بتحقيره أو الانتصار عليه، بل ببذل الذات من أجله".

ورأى أن "هذا ما يفتقده بلدنا الحبيب، حيث يسعى كل مكوّن إلى التسيّد على الآخر، بالأفكار أو الأعمال أو حتى السلاح. ما هكذا تبنى الأوطان وتنمو المجتمعات، بل بالحوار البنّاء المبني على الاحترام المتبادل، بين مواطنين متساوين، تحت راية واحدة هي راية الوطن، وحمى جيش واحد هو جيش الوطن، وانتماء واحد لوطن واحد الجميع فيه متساوون، وعبر طريق معبّدة بالرحمة ومضاءة بالمحبّة. المزايدات ليست إلا عملاً شيطانياً هدفه الخراب والدمار وتوسيع الهوة بين الإخوة، لذا، بما أنّنا أبناء الله الواحد، علينا أن نترجم ذلك بأن نكون أبناء وطن واحد غير مقسّم إلى جماعات متناحرة، وأحزاب متنافرة، وطوائف تتسابق على المغانم والسلطة وفرض الرأي او العقيدة. سمعنا بولس الرسول يقول في الرسالة التي تليت على مسامعنا: "لنطهر أنفسنا من كل أدناس الجسد والروح ونكمل القداسة بمخافة الله". لذا علينا أن ندرك أننا، بإيماننا بالله، نحن مدعوون إلى الشهادة لاسمه لا لمصالحنا، والتكلّم بلغته لا بمشيئتنا، والعمل بوصاياه لا بما يناسب غاياتنا، وإلا نكون خائنين لإيماننا بالله وتسمّيتنا باسمه".

وختم: "كذلك نحن مدعوون كمسيحيين أن نصير شهوداً حقيقيين لإنجيل المسيح. فإذا أحببنا من يحبّنا فقط لا نختلف عن منطق العالم، أما إذا أحببنا من يعادينا، عندئذ يشرق نور المسيح منا، ويختبر الناس من خلالنا أن ملكوت الله حاضر في هذا الدهر رغم سواد أيّامه وقساوة إنسانه".

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: