بعد أكثر من عقد على أحداث عبرا، عادت هذه المعركة إلى الواجهة مع تسليم الفنان فضل شاكر نفسه للسلطات اللبنانية الرسمية، خطوة أعادت فتح ملفات بقيت حاضرة في الذاكرة الأمنية والسياسية للبنانيين، وأكدت أن القضية لم تُغلق يوماً على الرغم من مرور السنوات. لم يكن الأمر مجرد قضية شخصية أو عودة اسم شاكر إلى التداول الإعلامي، بل كشف عن وقائع كانت مدفونة وأعيدت إلى الضوء بعد صمت طويل، ما أعاد النقاش حول مسؤوليات الدولة، وعلى رأسها حزب الله، إلى دائرة التركيز.
في حزيران 2013، لم تندلع معركة عبرا بين الدولة ومجموعة مسلّحة فحسب، بل بين فكرة الدولة وواقعها المفكّك، فكانت عبرا لحظة سقطت فيها شرعية العنف بيد الدولة، وتقدّم فيها السلاح الطائفي ليملأ فراغ القرار الوطني.
منذ عبرا، لم تعد المشكلة في من يطلق النار، بل في من يملك الحقّ بالسكوت عنه، ففي تلك الفترة، كان حزب الله يخوض معاركه في سوريا إلى جانب النظام، متجاوزاً قرار الحكومة اللبنانية بـ"النأي بالنفس"، ما أثار شعوراً متزايداً بالغبن لدى شرائح من الطائفة السنية التي رأت في ذلك خرقاً فاضحاً لمبدأ سيادة الدولة.
في المقابل، غابت السلطة السياسية عن المشهد، تاركةً الشارع فريسةً لردّات فعل غير منظّمة، ولشخصيات كأحمد الأسير ملأت الفراغ بخطاب تعبوي، وجد في صيدا أرضاً خصبة.
من جهة، سلاح حزب الله "الشرعي بحكم القوة"، ومن جهة أخرى، سلاحٌ رديف بحكم الإحباط، وبين السلاحين، كان الجيش يُستدرج إلى معركة لا تشبهه.
المؤسسة العسكرية دخلت عبرا تحت شعار "استعادة النظام"، لكنها وُضعت موضوعياً في موقعٍ سياسي حساس، ففي نظر البيئة السنية، بدت وكأنها تواجه طرفاً واحداً من دون أن تمسّ بالطرف المقابل، وفي نظر البيئة الشيعية، كانت تقوم بـ"واجبها الوطني" ضد "الإرهاب". وهكذا تحوّل الجيش، من دون قصد، إلى أداة إسقاط رمزية للتوازن الطائفي بدل أن يكون ضامناً له.
الجدل الذي تلا المعركة تمحور حول سؤال واحد، هل شارك حزب الله فعلاً في العمليات الميدانية إلى جانب الجيش؟
سؤالٌ بسيط في ظاهره، لكنه في عمقه يتجاوز البعد العسكري إلى جوهر الدولة اللبنانية نفسها. ففي حين نفى الجيش وقياداته أي وجود لعناصر حزبية على الأرض، انتشرت صور وشهادات متقاطعة من سكان صيدا ومقاتلين سابقين، تتحدث عن مسلحين بلباسٍ مدني، مجهزين بأسلحة متطورة، يتحركون بالتوازي مع وحدات الجيش، واضعين وشاحاً أصفر على ذراعيهم.
لم تكن الأدلة قاطعة، لكنها كانت كافية لإثارة الشكوك في بلدٍ يعرف تماماً تداخل الساحات بين الدولة و"الحزب".
وسائل إعلام محسوبة على حزب الله تحدثت عن "تعاون لوجستي محدود" حينها، فيما ذهبت وسائل أخرى أبعد، لتؤكد أن "الحزب" شارك فعلياً في القتال، تمهيداً لاقتحام مربّع الأسير.
لكن الأهم من ذلك، حتى لو لم يشارك مباشرة، فمجرد حضور ظله في المعركة كان كافياً لإفراغ الدولة من شرعيتها المعنوية حينها، حين تمتلك جهة حزبية القدرة على المشاركة في قرار الحرب والسلم، فإن أي مواجهة داخلية تصبح خاضعة لتفسير طائفي، لا وطني.
والنتيجة، انتصر الجيش عسكرياً، وخسرت الدولة سياسياً، لأن النصر في معركة كهذه لا يُقاس بعدد القتلى، بل بمدى قدرة السلطة على احتكار السلاح بعد انتهائها، وهو ما لم يحدث.
"ما بعد عبرا"
بعد المعركة، دخل لبنان مرحلة "ما بعد عبرا"، حيث تكرّس منطق جديد، لا يجوز لأي طرف أن يرفع السلاح داخل لبنان، إلا إذا كان يرفعه في الاتجاه الذي يرضي موازين القوى.
تمّت محاكمة أنصار الأسير، وسُجن من سُجن، بينما لم تُفتح أي مراجعة وطنية أو برلمانية جدّية حول مشاركة حزب الله أو مسؤولية الدولة في منع الانفجار قبل وقوعه.
بهذا الشكل، أصبحت عبرا سابقة خطيرة، نموذجاً لكيفية استخدام العنف الشرعي لإغلاق ملفٍّ سياسي بدلاً من معالجته، فعبرا لم تكن فقط مكاناً، بل فكرة تختصر لبنان كله، مدينة منقسمة بين شارعٍ يرى الدولة أداة قمع، وشارعٍ يراها حامية وجوده، جيشٌ يحارب من دون قرار سياسي واضح، وحزبٌ يمارس دوره الأمني فوق مؤسسات الدولة.
كل هذا جعل من عبرا "مسرحاً مصغّراً" للبنية اللبنانية المريضة، حيث الطوائف تخاف بعضها أكثر مما تثق بالدولة، وحيث الأمن يُدار بالمساومات لا بالقانون.
وبعد أكثر من عقد على معركة عبرا، لم يتغير الواقع اللبناني فحسب، بل بدأ يتكشف تراجع هيمنة حزب الله وسلاحه على المشهد الداخلي.
ففي حين خرج الحزب من عبرا أقوى عسكرياً، أصبح اليوم مواجهاً لفقدان الشرعية في نظر شريحة كبيرة من اللبنانيين، وحتى على المستوى الإقليمي والدولي، ما يضعف صورته كقوة مستقلة قادرة على فرض قرارها.
عبرا لم تكن مجرد مواجهة بين الجيش ومجموعة مسلّحة، بل اختباراً لصلاحية الدولة في احتكار العنف، ولمدى قدرة المجتمع على محاسبة القوى المسلحة. واليوم، مع تصاعد النقاش حول سلاح "الحزب" وضغوط المجتمع والدولة عليه، يظهر أن التوازنات تغيرت، لم تعد قوته المطلقة قائمة، وبدأت تتراجع شرعيته العسكرية والسياسية.