كتب شارل جبور في صحيفة "نداء الوطن":
تقاطعت معلومات حول إيصال "حزب اللّه" رسالة إلى واشنطن عبر وسطاء، مفادها أنه على استعداد للتخلّي عن سلاحه أسوة بما قامت به "حماس"، لكن بشرط التفاوض المباشر معه، على غرار ما حصل مع "الحركة". فما خلفية هذه الرسالة، وفي هذا التوقيت بالذات؟
الخلفية الأساسية مردّها إلى أن "الحزب" أدرك، ولمس، أن خروج "حماس" من المشهد العسكري والسياسي في غزة يعني أن دوره هو التالي، وأن الضغط كلّه سيتركّز عليه قريبًا جدًا، وأن سياسة شراء الوقت لم تعد تجدي نفعًا، وأنه في أيّ لحظة قد يُخيّر، على طريقة "الحركة"، بين التخلّي الفوري عن سلاحه، أو منح واشنطن الضوء الأخضر لتل أبيب لنزع سلاحه بالقوّة.
فما حصل في غزة هو زلزال كبير، بحجم الزلزال السوري مع إسقاط نظام الأسد، الذي قطع طريق "الحرس الثوري" إلى سوريا ولبنان وغزة، فيما تقاعد "حماس" أسقط من يد إيران الورقة التي استثمرت وتذرّعت بها طويلًا، فلم يعد هناك من فصيل تدعمه لتزايد في المسألة الفلسطينية، التي عادت ملكًا للفلسطينيين وحدهم.
حاول "حزب اللّه" التذاكي في التعامل مع ثلاثة تطوّرات كبرى:
التطوّر الأول، هزيمته العسكرية التي ألزمته توقيع اتفاق 27 تشرين الثاني، الذي وافق فيه على تفكيك بنيته العسكرية، ولولا هذا التوقيع لما أوقفت إسرائيل الحرب، لكنه، رغم ذلك، واصل الخطاب القديم نفسه المتعلِّق بما يسمّى المقاومة.
التطوّر الثاني، سقوط خط إمداده في سوريا، وقيام نظام معادٍ لمشروعه، فسقط كلّ الخط الممتدّ من سوريا إلى لبنان وصولًا إلى غزة، لكنه رفض التسليم بهذا المعطى الاستراتيجي، الذي جعله محاصرًا، وسدّد ضربة قاضية للمشروع الإيراني، ظنًا منه أن الرمال المتحركة ستؤدي إلى إسقاط نظام الشرع وعودة الفوضى.
التطوّر الثالث، نشوء سلطة تنفيذية برأسيها وحكومتها، تريد أن تحتكر وحدها السلاح، ورفعت الغطاء عنه في 5 آب الماضي، ووضعت خطة لنزع سلاحه، لكنه رغم ذلك يحاول التذاكي بالفصل بين جنوب الليطاني وشماله، وتحييد رئيس الجمهورية، وشن غضبه على رئيس الحكومة، ظنًا منه أنه يستطيع أن يشق صفّ الرئاستين. وهذا وهم وتذاكٍ، فإذا برئيس الجمهورية يفاجئه ببيان يتهِم فيه إيران بسعيها إلى التعويض في لبنان عن خسارتها في غزة، ويتهِم "حزب اللّه" بأنه ورّط لبنان في حرب "الإسناد"، ويدعوه إلى أن يحذو حذو "الحركة"، طالما كان المبادر في إسنادها، أي دعوة واضحة وصريحة لإعلان تخلّيه عن السلاح.
ولم يكن هذا الموقف ليصدر لولا "زلزال غزة"، وهو يشكل جزءًا من تردّدات هذا الزلزال التي ما زالت في بداياتها. وإذا كان "الزلزال السوري" قد أدّى إلى إنهاء الفراغ الرئاسي، في مؤشر على تراجع "حزب اللّه" سياسيًا وتسليمه بالوقائع الجديدة، ونشوء سلطة لم تكن لتنشأ لولا هزيمته العسكرية، فإن "زلزال غزة" سيؤدّي إلى تسريع إنهاء مشروعه المسلّح، وسيشكّل نموذجًا للتعامل معه، ولاحقًا مع الحوثي والميليشيات الإيرانية في العراق.
وفي هذا السياق بالذات، وجّه "الحزب" رسائل إلى الولايات المتحدة عبر إيران ووسطاء آخرين، مفادها أنه على أتمّ الاستعداد لأن يحذو حذو "حماس"، لكنه يريد أن يُعامل كما عوملت هي، وهذا يعني، أولًا، أنه استوعب للمرة الأولى أن سياسة التذاكي لم تعد تنفع، وثانيًا، أنه أراد استباق وضعه أمام مهلة زمنيّة لا تتعدّى الـ 72 ساعة، فبادر إلى التواصل عسى أن يشتري المزيد من الوقت.
ويبحث "حزب اللّه" عن انتزاع ثلاثة مكاسب أساسية:
المكسب الأوّل، انتزاع تعويض معنويّ بالتفاوض الأميركي المباشر معه، تعويضًا عن هزائمه العسكرية، وبما يدعِّم حجته بأنه، لولا قوّته ودوره، لما تمّ التفاوض معه.
المكسب الثاني، انتزاع ثقة واشنطن بأن دوره حاجة لها، وتذكيرها بترسيمه الحدود البحرية، والتزامه بوقف إطلاق النار منذ انتهاء حرب تموز 2006، وأنه دخل الحرب مساندة لـ "حماس"، لا رغبة في الحرب، بل حفاظًا على ماء وجهه، وقد أرادها ضمن قواعد اشتباك محدودة، غير أن إسرائيل هي من كسرت هذه القواعد.
المكسب الثالث، انتزاع فيتو داخل السلطة التنفيذية، تجنبًا لقرارات يرفضها على غرار ما حصل في 5 آب الماضي، وإدخال عناصره في الجيش تحت حجّة استيعابهم. وهو لا يطالب بتعديلات دستورية ظاهرة ومكشوفة، لإدراكه أن ميزان القوى واللحظة السياسية لا يسمحان بذلك، فيما من السهل عليه، بنظره، السعي إلى مقايضة إعلان تخلّيه عن السلاح بإحياء العمل بالفيتو الذي أقرّه اتفاق الدوحة، واستيعاب عناصره في مؤسّسات الدولة، بما يتيح له شلّ السلطة التنفيذية، وشلّ الأمرة العسكرية عندما يختلّ التوازن العسكري لصالحه.
وتقول المعلومات إن رسائله لم تبلغ أهدافها، وإن واشنطن ليست في وارد مفاوضته، وإنه حين أعطي الفرصة للخروج من الحرب بدّدها. وإنه، وإن كانت "حماس" تفاوض حاليًا بفضل امتلاكها ورقتي قوة: الرهائن والسيطرة على الأرض، إلّا أنها سلّمت بخروجها من المعادلتين العسكرية والسياسية.
وقد جاء الردّ على رسائل "حزب اللّه" واضحًا بأنه بدّد ثلاث فرص أساسية: فرصة تطبيق اتفاق الطائف، فرصة تطبيق القرار 1559، وفرصة تطبيق القرار 1701، ولم يعد هناك من فرصة رابعة، ولا مجال لتفاوض مباشر. فإمّا أن يُطبِّق اتفاق 27 تشرين الثاني بحلّ تنظيمه العسكري والأمني وتسليم سلاحه، وإمّا سينفذ الاتفاق بالقوّة.