منذ أكثر من قرن، رُسمت خرائط الشرق الأوسط على طاولات المفاوضات الأوروبية بالحبر والرياء، لا بالدم كما يحدث اليوم. يومها، أفرزت اتفاقية سايكس بيكو حدوداً وهمية فصلت الشعوب والمياه والنفط، ووزّعت النفوذ بين باريس ولندن. أما اليوم، فيبدو أنّ المنطقة تعيش نسخةً جديدة من تلك الاتفاقية، لكن بنسخةٍ أكثر تعقيداً، تُكتب بالنار والبارود لا بالحبر، ويمكن تسميتها مجازاً بـ"سايكس بيكو بلاس، أي إعادة إنتاج المشهد القديم، لكن على مسرح أكثر اشتعالاً وتداخلًا في الأدوار والمصالح.
من غزة إلى جنوب لبنان، ومن سوريا إلى العراق واليمن، تدور حرب الخرائط بوجوه مختلفة. فـ"نهر الليطاني" الذي لطالما فتح شهية الإسرائيليين منذ العام 1919، حين قدّم حاييم وايزمان وديفيد بن غوريون خريطة لإسرائيل تمتد شمال النهر في مؤتمر باريس للسلام، عاد اليوم ليحتل مركز الحديث مجدداً في الميدان اللبناني.
بنيامين نتنياهو، الذي يعيش آخر فصول مسيرته السياسية على وقع حرب غزة المفتوحة، يبدو كمن يريد أن يخلّد اسمه في التاريخ الإسرائيلي بتحقيق حلم أسلافه: تأمين جنوب الليطاني، ودفع "الحزب" إلى شماله، أي بمعنى آخر، خلق "منطقة عازلة" تكرّس واقعاً حدودياً جديداً تحت عنوان "الأمن الوقائي".
لكن اللعبة هذه المرة ليست لبنانية - إسرائيلية فقط.
فالميدان الغزّي يشكّل الجبهة الأساسية في هذا "السيناريو الكبير"، إذ تسعى إسرائيل، بدعم أميركي وغربي، إلى إعادة تشكيل خريطة النفوذ الفلسطيني عبر القضاء على حماس، تمهيداً لإقامة سلطة بديلة تضمن "أمن إسرائيل" وتضع قطاع غزة ضمن منظومة إقليمية جديدة، وقد نجحت بذالك، من خلال ما يحدث اليوم في غزة من استسلام لحماس و بدأ تسليم الأسرى من كلا الطرفين وذلك برعاية الرئيس الاميركي دونالد ترامب.
في المقابل، تمتد خيوط النار إلى إيران، التي تدير معركة "المحور" على أكثر من جبهة، وتعتبر أن أي تراجع في غزة أو لبنان يعني خسارة موقع استراتيجي في معادلة الردع الإقليمي. لذلك، تشهد الساحة العراقية والسورية تصعيداً متدرجاً بين الميليشيات الموالية لطهران والقوات الأميركية، في إطار صراع النفوذ داخل ما يُسمّى "الهلال الشيعي".
لبنان اليوم، في قلب هذه المعادلة الجديدة. فإسرائيل لا تخوض حرباً حدودية فقط، بل حرب إعادة تموضع استراتيجي هدفها إخراج حزب الله من الحدود الجنوبية وتوسيع هامشها الأمني داخل الأراضي اللبنانية، بالتوازي مع محاولة أميركية – فرنسية لفرض تسوية جديدة عبر الأمم المتحدة تعيد رسم حدود "الجنوب الأمني"، وكأننا أمام "سايكس بيكو" جديد، ولكن بمقاسات تل أبيب وواشنطن، ولا حل بين لبنان واسرائيل إلا بالتفواض وما سينتج عنه هو الحل الدائم ترسيم الحدود أم التطبيع أم اتفاقية السلام وفق القمة العربية للسلام.
أما العرب، فبعد عقود من الغياب عن مراكز القرار، بدأوا اليوم يستعيدون موقعهم كقوة توازن في معادلة الشرق الأوسط الجديدة. فدول الخليج، التي باتت تمتلك ثِقلاً اقتصادياً واستثمارياً هائلاً، تسعى إلى توظيف نفوذها المالي في خدمة الاستقرار الإقليمي، عبر دعم مشاريع إعادة الإعمار، وتمويل مبادرات تنموية تربط بين المشرق والخليج والبحر الأحمر، في ما يشبه خطة سلام اقتصادي شامل.
هذا الدور العربي الجديد لا يقوم على الجيوش، بل على النفط والمال والديبلوماسية الهادئة، في محاولة لإعادة توجيه المنطقة نحو الاستثمار بدلاً من الصراع، والنمو بدلاً من الانقسام.
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد تصعيد أمني أو نزاع حدودي؛ إنه مشروع إعادة توزيع النفوذ في الشرق الأوسط تحت غطاء الحروب "الوقائية". وقد يكون نهر الليطاني وغزة وباب المندب ومضيق هرمز مجرد فصول مختلفة من المسرحية ذاتها - مسرحيةٍ اسمها: اتفاقية سايكس بيكو بلاس.
في ظلّ هذا المشهد المشتعل، يبرز السلام كخيار وحيد واقعي يمكن أن يوقف انهيار المنطقة ويعيد ضبط بوصلتها السياسية والاقتصادية. فالمعادلات العسكرية أثبتت عجزها عن إنتاج استقرار دائم، والردع المتبادل لم يعد سوى هدنة موقتة تؤجّل الانفجار من جولة إلى أخرى.
اليوم، تتزايد الدعوات الإقليمية والدولية نحو تحويل الصراعات إلى مفاوضات، والحروب إلى مسارات تسوية تقوم على المصالح المشتركة لا على موازين القوة. فوقف النار في غزة، والتهدئة على الجبهة اللبنانية، والجهود العربية لإحياء مبادرة السلام العربية، كلها مؤشرات إلى أن المنطقة تتجه تدريجياً نحو خيار التهدئة الشاملة.
لكنّ السلام المنشود لا يمكن أن يكون هشّاً أو مفروضاً من الخارج، بل يحتاج إلى إرادة سياسية عربية جامعة تُعيد تعريف الأمن من منظور التنمية لا السلاح، وتستثمر في الإنسان لا في الحرب. فحين تدرك دول المنطقة أنّ الاقتصاد يمكن أن يكون أداة نفوذ أقوى من المدفع، يبدأ الشرق الأوسط بالخروج فعلاً من دائرة النار إلى مرحلة الاستقرار والبناء.