"فريندز" يغادر "نتفليكس"

friends

بالنسبة إلى جيلٍ كامل من المشاهدين، لم يغادر مسلسل "فريندز" دائرة الحضور اليومي قطّ. ظلّ هناك، في الهامش الهادئ للحياة، تُبَثّ حلقاته القصيرة قبل النوم، أو مرافِقةً للأعمال المنزلية، أو ملاذاً عابراً في لحظات عاطفية. هذه الإلفة العميقة تحديداً هي ما يجعل خبر مغادرته نتفليكس في عدد من المناطق مع نهاية العام 2025، ومنها الشرق الأوسط، يبدو أقلّ شبهاً بتعديل تقني في حقوق العرض، وأكثر قرباً من إعلان نهاية زمنٍ كامل من "المشاهدة المريحة" (comfort viewing)، أي العودة إلى أعمال مألوفة بحثاً عن الطمأنينة.

المسلسل الكوميدي الذي ابتكره ديفيد كراين ومارتا كوفمان، وعُرض للمرة الأولى بين عامي 1994 و2004، رسّخ مكانته كإحدى الظواهر التلفزيونية في أواخر القرن العشرين. غير أنّ مسيرته الثانية - وربّما الأوسع أثراً - تشكّلت في عصر البثّ التدفقي. فعندما وصل "فريندز" إلى نتفليكس في عدد من الأسواق العالمية خلال العقد الثاني من الألفية، وُلد مجدداً في أعين جمهورٍ لم يكن قد شهد لحظة وداعه الأولى. عندها، تحوّل المسلسل إلى رفيق دائم: قابل للإعادة بلا نهاية، مدفوع بخوارزميات الاقتراح، ومتغلغلاً في الوعي الثقافي اليومي.

لم تصنع نتفليكس "فريندز"، لكنها أعادت تعريف حضوره في الحياة اليومية؛ يدخل المشاهدون حلقاته ويغادرونها بحرّية، يشاهدون خارج التسلسل، يعيدون لحظاتهم المفضّلة، أو يتركون المواسم تنساب في الخلفية. وبهذا التحوّل الهادئ، خرج "فريندز" من إطار المسلسل الكوميدي، ليصبح لغة ثقافية مشتركة، تُتداول مواقفها ونكاتها بين أجيال متباعدة.

ومع ذلك، فإنّ مغادرة "فريندز" نتفليكس الثلثاء 30 كانون الأول 2025 ليست مفاجئة بمنطق الشركات. فالحقوق تعود إلى "وورنر براذرز ديسكفري"، التي أمضت السنوات الأخيرة في إعادة تجميع أكثر أعمالها قيمة ضمن منصتها الخاصة، المعروفة اليوم باسم "ماكس". وكان المسلسل قد غادر نتفليكس في الولايات المتحدة وكندا العام 2020، في واحدة من أوائل صور "استعادة المحتوى" ضمن صراع منصّات البثّ. وما يجري اليوم ليس سوى الامتداد الدولي المتأخّر للاستراتيجية نفسها.

غير أنّ وقع الخبر يتجاوز الحسابات المؤسسية، ليكشف عمق العلاقة التي نسجتها منصّات البثّ مع الإيقاع الشخصي والذاكرة العاطفية للمشاهدين. بالنسبة إلى كثيرين، كانت مشاهدة "فريندز" خياراً دائماً، والمسلسل مقترَحاً، يعمل تلقائياً، ومتداخلاً مع الروتين اليومي. وإزالته تُربك هذا الاستمرار الصامت، وتكشف هشاشة مكتبات رقمية اعتاد الجمهور التعامل معها بصفتها مستقرة ودائمة.

في الوقت نفسه، تكشف هذه اللحظة تحوّلاً أوسع في مشهد البثّ العالمي. فمرحلة "كلّ شيء متاح في كلّ مكان" تنحسر تدريجاً، لتحلّ محلّها خريطة أكثر تفتّتاً، تنتقل فيها الأعمال الأيقونية خلف أسوار الشركات المالكة. ويُدفع المشاهدون إلى التتبّع عبر منصات مختلفة، أو إعادة الاشتراك، أو التخلّي. وبهذا المعنى، لا تمثّل مغادرة "فريندز" نتفليكس نهاية مسلسل بقدر ما تعلن أفول وهمٍ طويل عن سهولة الوصول.

في 2026، سيبقى "فريندز" حاضراً، بلا شك. ثقله الرمزي أكبر من أن يتلاشى، وسيظلّ مادة للمشاهدة والاستشهاد وإعادة الاكتشاف. غير أنّ خروجه من نتفليكس يُغلق فصلاً فريداً، تحوّل فيه مسلسل من التسعينات إلى طقس بثّ عالمي، ينسج حضوره بصمت في النسيج العاطفي للقرن الحادي والعشرين.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: