من يعود الى تاريخ روسيا وأوكرانيا – سرعان ما يدرك عمق الصراع بين كنيستي روسيا وأوكرانيا الضارب جذوره بالزمن قرونا الى الوراء – ومنذ الزمن الذي كانت تعتبر فيه العاصمة الأوكرانية كييف “القدس” بالنسبة للكنيسة الاورثوذكسية الروسية كما يقال .
ففضلا عن الأسباب السياسية والاستراتيجية والجيو سياسية – المعلنة للحرب الروسية على أوكرانيا – مما لا شك فيه ان هناك أسباباً خفيّة للغزو الروسي لا يشار اليها أبرزها البعد الديني بالنظر الى الأهميّة الدينيّة لمدينة كييف.
الكثير من المؤرخون– يجمعون على ان الحرب الحالية في أوكرانيا – انما لا تعدو في فصل من فصولها – محطة جديدة من الصراعٍ القديم غداة اعادة إنشاء إمبراطوريّة مسيحيّة، “على غرار الإمبراطورية الرومانية المقدّسة في العصور الوسطى الجديدة، والتي عادة ما تتوج بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاحتفال بقدّاس الفصح في كييف التي سحب مؤخرا الويته من محيطها ومن ضواحيها منذ أيام في إشارة الى تراجعه العسكري عن خوض معركة كييف المقدسة المعالم والرموز .
فالصراع على أوكرانيا هو أيضاً صراع على أيّة كنيسة اورثوذكسية ستسيطر على شرق أوروبا. الروسية أم الأوكرانية؟
فالصراع بين الكنيستين الأرثوذكسيّتين الروسية والأوكرانية له جذور تمتدّ إلى مئات السنين، لكنّه تصاعد في السنوات الأخيرة بعد إعلان أرثوذكس أوكرانيا من خلال مجلس خاص للأساقفة – تأسيس كنيستهم المستقلّة عن الكنيسة الروسية في يناير/كانون الثاني 2018؛ من داخل كاتدرائية “القدّيسة صوفيا” الأثرية في كييف، وحينها انتخب الأسقف إيبيفاني رئيساً لـ”الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية “
الجدير ذكره تاريخيا – انه في القرن العاشر، وحّد أمير كييف الوثني الشعوب الروسية- في كل من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا- في دولةٍ واحدة، معتنقا الدين المسيحيّ .
لاحقا وعلى اثر انتصار فلاديمير الاوكراني امير كييف على المتمرّدين ضدّ الإمبراطور البيزنطي حول كييف الى مدينة مسيحيّة، ونظم معموديّة جماعيّة لسكانها في العام 988. فمن عمق التاريخ يسعى الرئيس بوتين لاستعادة كييف “المدينة الأم للأرثوذكسيّة الروسيّة”، تذكيراً بأمجاد فلاديمير الكبير الذي طوّب قديساً فيما بعد، ويحتفل المسيحيّون الأرثوذكس الشرقيّون وحتى الكاثوليك بذكراه. تبدلت في القرن الثالث عشر الجيو- سياسة الروسية – حين تعرضت كييف لاعتداءات الأمراء الروس والمغول عليها – فتهجر عدد كبير من الروس شمالاً وشرقاً إلى مدن مثل موسكو ، حيث ازدهرت الكنيسة في موسكو وأصبحت واحدة من أهمّ الكنائس الأرثوذكسية. وبذلك انتقلت السلطة الراعية للكنيسة الأرثوذكسية من كييف الى موسكو.فكان هذا السبب الاولي لتوتّر أوكراني روسي سرعان ما سيمتد لقرون – وتضاعف التوتر أيام الاتحاد السوفييتي – الذي وبعد سقوطه – كانت اغلبية الكنائس الأوكرانية على قطيعة مع كنيسة موسكو او في علاقات باردة وجافة معها .عام 2016، وبحضور بوتين، احتفلت روسيا بإنشاء نصبٍ تذكاري ضخم لـ”فلاديمير الكبير” امير كييف – متجاهلين نصبه التاريخي الموجود في كييف.كما برز الجفاء المستحكم بين الكنيستين في غياب اية إشارة اثناء الحفل يومها الى دور مدينة كييف – في وقت اشار بطريرك “الكنيسة الأرثوذكسية الروسية” كيريل إلى الخلاف بين روسيا وأوكرانيا ولو تلميحا .ردّت عندها أوكرانيا بنشرها صورة لنصب كييف التذكاري، مستخدمةً اللغة الأوكرانية لاسم الأمير “فولوديمير” بدلاً من “فلاديمير”.وفي العام 2018 انشأ الاوكرانيون كنيستهم المستقلّة وأعلنوا ذلك من كاتدرائية “القديسة صوفيا” في كييف والتي بناها ياروسلاف الحكيم، ابن فلاديمير الكبير.بعد ذلك حصل المطران المنتخَب إيبيفاني عام 2019، من البطريركية القسطنطينية المسكونية (المقرّ التاريخي للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية) على “أمرٍ رسمي” يمنح كنيسة كييف “الاستقلال”. على الأثر قطعت الكنيسة الروسية علاقاتها مع بطريركية القسطنطينية .مع ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم والهجوم على شرق أوكرانيا، “عجزت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والأوكرانية عن الحفاظ على الحياد” – فتورطت كل منها في دعم قيادتها السياسية .فقد وصف رئيس الكنيسة الروسية البطريرك كيريل، خصوم موسكو في أوكرانيا بـ”قوى الشرّ”واتهم بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية إيبيفاني الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بانه روح المسيح الدجّال .
وهكذا نستخلص مما تقدم ان الكنيسة الشرقية الاورثوذكسية بين روسيا وأوكرانيا في حالة نزاع وانشقاق – ما يعزز لدى كلا الطرفين مبررات المواجهة – ويعزز القوميات التي يلحمها الدين – كل منها نصرة لدولتها وقيادتها السياسية – كما ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لطالما اتكأ على الكنيسة الداعمة الأولى والاساسية له في كل نهجه السياسي وفي الحكم وإدارة روسيا وحتى في تدخلاته الخارجية كمثال تدخله في سوريا . في العام 1054 حصل الانشقاق الكنسي الكبير بين شرق وغرب – فهل يتكرر في القرن الحادي والعشرين انشقاق من نوع اخر الا وهو الانشقاق الرسمي الكبير بين كنيستي اورثوذكسيتين مفترض كونهما موحدتين وواحدتين وجامعتين لشعبين وتاريخين متلازمين ؟ وما يمكن ان يكون لموقف كنيسة موسكو الداعمة للرئيس بوتين وحربه على أوكرانيا من تداعيات على العلاقات بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية الرافضة للحرب والتي ادانت الرئيس بوتين ؟ أسئلة كثيرة نترك الإجابات عليها للقادم من الأيام والاسابيع والاشهر .