مع سقوط مدينة ليسيتشنسك الأوكرانية اليوم في يد الجيش الروسي، دخلت الحرب في أوكرانيا منعطفاً جديداً وخطيراً، إذ ان موسكو من خلال هذا الانتصار الميداني إنما تُثبت إصرارها على انتزاعها مقاطعتي جمهوريتي الدونتسك واللوغنسك الشعبيتين من السيادة الأوكرانية للإستحواذ على منافعها الاقتصادية والثقافية والتاريخية التي لطالما اشتهرت بها المنطقتان.فالدونباس منطقة تاريخية وثقافية واقتصادية في جنوب شرق أوكرانيا تسيطر عليها المجموعات الإنفصالية الموالية لموسكو منذ العام 2014، الذي كان عام بداية دق ناقوس الخطر حول مصير وحدة أراضي أوكرانيا وسلامتها.
إزاء الوضع المستجد في الميدان، وفي قراءة تحليلية لآفاق الحرب وفرض الحلول لها، يستوقفنا وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر الذي لا يزال مرجعاً هاماً للسياسات الخارجية والعلاقات الدولية، والذي من خلال حديثه لصحيفة الاندبندنت – العربية أطلق سلسلة من مواقف يجدر التوقف عندها وتحليلها.
يعتبر كسينجر أن بإمكان روسيا السيطرة على 20 في المئة من أوكرانيا ومعظم دونباس، بما فيها من مناطق صناعية وزراعية أساسية الى جانب شريط بري مطلٍ على البحر الأسود، فيكون الرئيس بوتين بذلك قد حقق نصراً، رغم النكسات التي أصابت حملته في البداية، وسيكون دور حلف شمال الأطلسي غير حاسم خلافاً لما كان الإعتقاد سابقاً.كيسنجر يعتبر أن النتيجة الثانية التي يتوقّعها ستتمثّل في المجهود الذي سوف يُبذل لإخراج روسيا من الأراضي التي استولت عليها قبل هذه الحرب، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، وعندها ستنقلب الحرب الى حرب ضد روسيا.أما النتيجة الثالثة التي يمكن توقّعها فهي في الإنطباع المكوّن لديه من أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زلنسكي سيتقبل فكرة انهزام العدو الحالي اذا استطاع الأحرار منع روسيا من تحقيق أي احتلالات عسكرية، واذا عاد خط القتال الى الوضع الذي كان سائداً في العام 2014، عندها يُعاد تسليح أوكرانيا وربطها بشكل وثيق بحلف شمال الأطلسي إن لم تكن بعد قد انضمت اليه، وتُحلّ عندها سائر المسائل بالتفاوض، وقد يبقى الوضع مجمّداً الى حين، الأمر الذي قد لا يطول اذا رأينا كيفية إعادة توحيد أوروبا بحيث سيكون بالإمكان تحقيق حلول بعد فترة وجيزة من الزمن.
هاجس كيسنجر أن لا ندفع الأعداء الى التحالف مع بعضهم، ويقصد بالدرجة الأولى الروس والصينيين، من هنا دعوته لمقاربة مختلفة تقوم على إيجاد الفرص والمجالات التي تمكّن من بناء علاقات جديدة لن ترقى الى مستوى الصداقة ولكنها تكون كافية لمنع التقارب الروسي -الصيني لا بل التحالف بينهما.
كيسنجر يعتبر أن بإمكان الحرب في أوكرانيا لن تنتهي، وفق تصوّره، بإنجاز كبير للحلفاء، بحيث سيكون شمال الأطلسي قد أصبح أكثر قوة بانضمام فنلندا والسويد اليه، ما سوف يعزّز احتمالات الدفاع عن دول البلطيق، وستكون لأوكرانيا أكبر قوة برية تقليدية في أوروبا متصلة بالحلف أو عضواً فيه، وعندها ستُضطر روسيا الى التعايش مع أوروبا ككيان قائم بذاته بدلاً من أن تكون الولايات المتحدة المدافع الأول عن أوروبا بأسلحتها النووية.
وفي قراءة كيسنجر للملف الصيني، يعتبر أنه بالإمكان تفادي المواجهة مع الصين وقد كان كيسنجر نفسه مَن هَندَس وخطط لزيارته السرية إلى الصين في فبراير (شباط) 1972 والتي مهّدت لانفتاح واشنطن على بكين في حينه، محذّراً من الإفراط في التركيز على مسألة تايوان لئلا تصل الأمور الى مواجهة مع الصين، ومعتبراً أن السياسة تجاه الصين تحتاج الى عنصرين : القوة الكافية لموازاة القوة الصينية حيث تبدو مهيمِنة والتزام مقاربة تجد الصين نفسها فيها تُعامل كمثيل وندّ وكمشارك في النظام العالمي.
وفي المحصلة، يقترح هنري كيسنجر تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها لروسيا، مقابل معاهدة نهائية تحفظ أمن روسيا وفي نفس الوقت تزيل الهواجس الغربية والأوكرانية لدى الجار المقلق، فمثل هذه التسوية قابلة للحياة وتعطي كل طرف ما هو محتاج اليه : روسيا الأمن والضمان بعدم الإعتداء على أمنها القومي، وأوروبا ومن ضمنها أوكرانيا الضمان بعدم إعتداء روسيا عليهما ومنحهما الضمانة والأمن للتمكن من بناء نظام متطور يحاكي تحديات الالفية الثالثة .
مَن يقرأ ويتمعّن في أفكار هنري كيسنجر، ومَن يعرف تاريخه السياسي الكبير، وبغض النظر عن مواقفنا الشخصية منه ومن بعض سياساته خاصة في الشرق الأوسط، يخرج باستنتاج رئيسي وهو أن هذا الرجل لا يزال صاحب النظرية الديبلوماسية التي لا تقيم وزناً لتضحيات تفصيلية في سبيل تحقيق أهداف كبرى، وبعض الأرض جزء من هذه التضحيات التفصيلية، تماماً كما كان يسعى في فترة لحل القضية الفلسطينية وكما سعى في ملف حرب فييتنام من خلال التفاوض بين الفييتنام والفيت كونغ ... والأمثلة لا تحصى ...
يبقى أن نستخلص حقيقة أن الرئيس بوتين وإن انتصر في سلخ الشرق والجنوب الشرقي عن السيادة الأوكرانية بقوة السلاح الا أنه في السياسة الدولية ولعبة المصالح والعلاقات الدولية فهو تكبّد خسارة لا تعوض ولن تعوض.
ففي السياسة ليس المهم أن تعرف كيف تكسب، بل أن تعرف كيف تحافظ على ما تكسبه ...