في وصفه أهمية منطقة آسيا الوسطى والقوقاز في خريطة النظام العالمي وتوازناته الاستراتيجية والجيو سياسية – يقول مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بريجنسكي – بأنها المفتاح الذي يضمن السيطرة على العالم لأن من يتواجد في هذه المنطقة – يعتبر مطلا على العمق الحيوي الصيني جنوب الشرق والعمق الحيوي الروسي باتجاه الشمال والعمق الحيوي للهند وباكستان وأفغانستان جنوباً والعمق الحيوي الإيراني غربا والعمق الحيوي لبحر قزوين باتجاه الجنوب .فمن الطبيعي ان تتخذ الصراعات الكبرى في هذه المنطقة وأن تكون ميزانا للتوازنات وترتيب الأولويات .فالسيطرة على آسيا الوسطى تعني السيطرة على إمدادات النفط والغاز المسال والموارد الطبيعية – وبالتالي للقوى العظمى بحسب حساباتها ومصالحها – أن تتعاطى مع هذه المنطقة تبعا لأجنداتها : ففي حين روسيا تعتبرها منطقة أمن قومي لها بامتياز – وقد أسست موسكو انطلاقاً من هذه النظرة – وبقيادتها منظمة الأمن الجماعي التي ضمت كازاخستان وطاجكستان وقيرغيزستان وأرمينيا وبيلا روسيا – تعتبرها الولايات المتحدة الأميركية منطقة صراع وتنافس خاصة وأن لواشنطن هدفاً استراتيجياً كبيراً يتمثل في تصدير الغاز الأميركي المسال الطبيعي ، ما يجعل منطقة القوقاز وآسيا الوسطى منافساً كبيراً لها، و ينبغي بناءً عليه، إفقاد هذه المنطقة استقرارها بخلق حالات فوضى واضطراب وحروب كي تنهار الأنظمة الموالية للمعسكر الشرقي ( الصين وروسيا ) فيضعف تأثيرهما وبخاصة على ايران ودول المنطقة القوقازية فتستطيع عندها واشنطن قطف ثمار التنازلات والمكاسب .
في بداية العام الحالي اندلعت اضطرابات في جمهورية كازاخستان وحصلت أعمال فوضى وتخريب واشتباكات بين متظاهرين وقوى الامن واحرقت مبان حكومية بخاصة في مدينة الماآتا بسبب رفع سعر الغاز – لكن التطورات شهدت تصعيداً كبيراً وخطيراً في البلاد ، ما دفع بالسلطات إلى إعلان حالة الطوارئ العام – فتدخلت روسيا بناء لطلب الرئيس الكازاخستاني توكاييف عسكريا .من الناحية الجيو سياسية : كازاخستان من بين أكبر دول اسيا الوسطى والثانية في عدد السكان بعد أوزبكستان 40% منهم من العرق الروسي – كما انها من بين أهم مسالك طريق الحرير الصيني – ولها حدود مشتركة مع روسيا تبلغ 6467 كيلومتر – وهي بلاد غنية بالنفط والغاز والمعادن – وقد تضاعف إنتاجها المحلي الإجمالي مرات عديدة وتعتمد في اقتصادها على النفط والغاز .
هذه الأحداث التي اندلعت في كازاخستان – لفتت أنظار دول المنطقة الى ما يحاك من مخططات للإستيلاء على خيراتها – وقد تحولت الى ساحة صراع خفي بين الدول الكبرى وبخاصة بين الصين والولايات المتحدة وروسيا – علماً أن التوترات كانت مندلعة في أوكرانيا منذ العام 2014 مع سقوط جزيرة القرم بيد الرئيس فلاديمير بوتين – واستمرار المعارك والمواجهات بين كر وفر الى حين بدء الرئيس بوتين عمليته الخاصة في 24 شباط الماضي ضد أوكرانيا – وبالتالي كانت كل الإهتمامات متوجهة نحو أوكرانيا – في الصراع القائم بين الروس والغرب والأميركيين – وقد اعتبرت موسكو في حينه ما يجري في كازخستان بمثابة طعنة من الخلف ولذلك كان تدخلها حاسماً لإخماد الثورة .
ظلت مع الوقت آسيا الوسطى وإلى الآن منطقة صراع وتجاذب بين خط روسي يسعى إلى توسيع نفوذ الكرملين في المنطقة لاستعادة الجمهوريات السوفياتية القديمة – وهذا ما عزز الإعتقاد بأن أحداث كازاخستان كانت مفتعلة من الروس لحمل كازاخستان على الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم والاعتراف باللغة والثقافة الروسية رسمياً والسماح لموسكو بإنشاء قواعدها في البلاد ومنح الحكم الذاتي للأقلية الروسية .
وبين خط أميركي غربي يسعى إلى إضعاف التأثير الروسي على دول المنطقة ومن خلاله إضعاف الوجود الصيني عبر إنهاكه في القلاقل والفوضى وتحويل مسار طريق الحرير الى منطقة عدم استقرار في سياق ضرب المنافسة القوقازية للنفط والغاز المسال الأميركي .
لكن واشنطن وفي سياق صراعها في آسيا الوسطى أقدمت على خطوة غير موفقة ومن خارج السياق – افهمت الرئيس فلاديمير بوتين رسالة مفادها ضعف واشنطن في وجودها الإقليمي – عندما اندلعت ازمة أفغانستان وحصل الإنسحاب الأميركي الدراماتيكي من البلاد – حيث اعتقد الرئيس بوتين ان الأوان قد حان لاستعادة المبادرة في مناطق الامن القومي الروسي المحيطة به وفي طليعتها أوكرانيا المتوترة منذ العام 2014 : وقد انطلق الرئيس بوتين من معادلة مفادها – ان القادر على التدخل الفعال في سوريا وضم شبه جزيرة القرم ومنع أوكرانيا بالقوة من الإنضمام إلى حلف شمالي الأطلسي أو الإتحاد الأوروبي – سيكون بالتأكيد قادراً على استكمال مخطط استعادة كافة الدول التي كانت تدور في الفلك السوفياتي سابقاً لأحياء امبراطوريته الجديدة بدءاً من أوكرانيا .فمن يقارن بين مختلف مناطق تدخل الروس في الجمهوريات المحيطة بهم يدرك تطابق الأهداف لكل حالة مع سابقاتها : الإعتراف بالوجود الروسي الاقلوي ومنح حكم ذاتي للأقلية الروسية – وهذا بالذات ما يريده الرئيس بوتين من أوكرانيا في جمهوريات الدو نباس الانفصالية وجنوب أوكرانيا وموانئها .
بالنسبة للقوى الكبرى وأوروبا من بينها آسيا الوسطى منطقة شبيهة بالشرق الأوسط من حيث الثروات التي تتدفق الى الغرب والشرق على السواء ما يعني ضرورة استمرار الهيمنة من طرف ومن اخر – ومعه استمرار مخططات تفكيك الدول كما في أوكرانيا وجورجيا وكما في الربيع العربي- والوسيلة معروفة – عبر خلق الفوضى وتهديد الامن القومي وفرض السيطرة على موارد البلاد وعلى بحر قزوين تحديدا .
فهل كانت أحداث كازاخستان في مطلع العام الحالي دق ناقوس انفجار الوضع في أوكرانيا و ما سوف يحدث فيها ؟
الأكيد أن الصراع المستمر هو بين روسيا بوتين التي تريد بسط نفوذها على دول اسيا الوسطى وأوكرانيا استعادة منها لأمجاد ونفوذ الإتحاد السوفياتي خاصة بعد انضمام عدد من الجمهوريات السوفياتية سابقاً إلى كل من حلف شمالي الأطلسي والاتحاد الأوروبي – وبعض دول الشرق الأوسط كسوريا لأثبات قوتها وسيطرتها – وبين الولايات المتحدة وأوروبا وحلف شمال الأطلسي الذين يريدون زعزعة حزام الجمهوريات الحليفة لموسكو لإضعاف بوتين وتأثيره وكبح جماح نظرته الإمبراطورية إلى دول محورية جيو سياسيا وغنية اقتصادياً كما أوكرانيا .
من هنا فإن ترددات الصراع الخفي في آسيا الوسطى تجد أصداء مدوية في أوكرانيا حالياً – بما يضرب النظام الدولي برمته ويدخل العلاقات الدولية في أزمة خطيرة جدا تنذر بتداعيات خطيرة ودراماتيكية على الأمن والسلام الدوليين – خاصة وإننا أمام منطقين مختلفين لا يلتقيان :
منطق روسي يعتبر التدخل في أوكرانيا حقاً لحماية الامن القومي الروسي وتحريك القوات العسكرية الروسية في المناطق الغربية للبلاد هو حق سيادي – فيما منطق الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا – يعتبر أن العملية الروسية في أوكرانيا غزو عسكري لدولة ذات سيادة .