منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، كي لا نعود في التاريخ أبعد من ذلك، والعالم العربي يعيش حالة انفصام فكري تجاه القضية الفلسطينية.
طبعاً لا داعي للتذكير بأن هذه القضية لطالما كانت ولا تزال، باعتقادنا في صلب اهتمامات العرب، حكومات وشعوب، كما لا داعي لسرد الوقائع التاريخية والسياسية التي تُثبت الاهتمام والتضامن العربيَين مع الشعب الفسلطيني وقضيته.
في مقاربتنا للموضوع، يجب قبل كل شيء أن نستذكر حقيقة فكرية وأنثروبولوجية تطرح أصل التبدّل الحاصل في أوجه التفكير والالتزام العربي بالقضية الفسلطينية.
لا نغالي إن قلنا أن مَن خرّب التضامن العربي مع القضية الفسلطينية عاملان أساسيان :
إيران والإسلام السياسي .
فإيران نجحت من خلال فكرة تصدير الثورة الى دول المنطقة العربية في الإستئثار الغرائزي بالمظهر المعادي لإسرائيل، ذاك المظهر الذي لا يزال الى يومنا هذا يستثير قسماً من الرأي العام العربي الإسلامي، وحتى السنّي الذي تجده مقتنعاً بدور إيران المحوري في مواجهة العدو الإسرائيلي.
الرأي العام العربي عاطفي النزعة وانفعالي الطبع، فكل ما يعبّر عن هذه النزعة وهذا الطبع يستهويه ويجذبه، ولأن القضية الفلسطينية بعد أكثر من 70 عاماً وصلت الى ما يشبه الحائط المسدود، فجاء العنصر الإيراني، ومن خلال أذرعه في المنطقة وبخاصة حزب الله في لبنان الذي يتقدم الجبهات الإيرانية المحاذية لإسرائيل لكي يجتذب قسماً من هذا الرأي العام الذي، وفي لحظة الربيع العربي أراد قلب الموازين لصالح كل من إيران وتركيا.
طبعا إيران اليوم تجد من داخل قلب العالم العربي – الإسلامي – السني تحديداً مَن يدافع عنها ويعتبرها أكثر وفاء وانتصاراً لفلسطين على غرار حركة حماس والجهاد الإسلامي في غزة.
وهنا ننتقل الى العنصر الثاني بعد إيران الا وهو العنصر "الإسلاموي" الذي ساهم مساهمة كبيرة في تراجع الاهتمام العربي كأولوية تاريخية بالقضية الفلسطينية.
فلعل تضافر كل من الدور الإيراني – التركي المتخادم للسيطرة على أنظمة المنطقة العربية التقليدية ساهم بشكل سريع في هذا التراجع.
فالعنصر الإسلاموي أو ما اصطلح على تسميته بالإسلام السياسي سعى مع الربيع العربي للوصول الى السلطة والدخول في صراعات حول السلطة والحكم، مقدماً تنازلات كبيرة لدول الغرب والقوى المساندة له إقليمياً، في مقابل ضمان وصوله للسلطة في الدول التي انتشرت فيها الثورات وأبرزها مصر وتونس وسوريا.
هذا الصراع على السلطة تركّز ضد الأنظمة الحاكمة في المنطقة، سواء في الخليج أو في مصر أو سوريا، ما أدى في لحظة تقاطع مصالح بين تلك الأنظمة الى التكاتف والتعاضد لاستعادة المبادرة من الثوريين وإفشال ثورتهم، وقد نجحت بدورها تلك الأنظمة في استعادة الحكم في دولها وانتقلت بسرعة الى ما يمكن وصفه " بالهجوم المعاكس " ضرباً لهذا الإسلام السياسي الذي إلتحف بحماية إيرانية - تركية، أي بحماية أعداء العرب التاريخيين وأصحاب المطامع التاريخية بالمنطقة العربية.
لن نتناول في هذا المقال تفاصيل تاريخية حول ذاك العداء العربي- التركي والعداء العربي- الفارسي، لكن ما يهمنا الآن الإشارة اليه هو أن هذا الإسلام السياسي ( السنّي في غالبيته) أُسند من دولتين إقليميتَين إمبراطوريتي النزعة والرؤية غير عربيتين، الأمر الذي تسبّب في رفض الرأي العام العربي – الإسلامي المحافظ، والقانع بأنظمة دوله ذات المنطلقات الدينية والقيمية الشرقية المتوارثة بحكم ولي الأمر كبديل على الولاء لدولتين لهما أطماع
تاريخية ضد المنطقة العربية والعرب وأنظمة حكمهم.
هذه الخلطة المتشابكة أدت الى النتائج الآتية :
- أولاً : إعتبار قسم كبير من الرأي العام العربي أن الفلسطينيين تنكّروا لتضحياتهم وتضامنهم التاريخي مع قضيتهم ففترت همّة العرب تجاه القضية، وتراجع مستوى الإلتزام تحت وطأة الشعور بالخيانة والخذلان من جانب الفلسطينيين الذين فضلوا إيران وتركيا على حضنهم العربي، وخاصة المنظمات الفلسطينية في قطاع غزة، متناسين التضحيات العربية والمساعدات والدعم التاريخي لقضيتهم.
- ثانياً : تعزيز الهيمنة الإيرانية وتوطيدها من باب غزّة على الملف الفلسطيني واستخدامه كورقة إضافية في لعبة مصالحها الإقليمية والدولية، ما عزّز بدوره الشرخ العربي الإسلامي وقسّم المجتمع الى عرب مسلمين سنّة موالين لإيران ( قطاع غزة مثلاً ) وعرب مسلمين مناهضين لإيران كمعظم شعوب الدول الخليجية والعربية باستثناء دولة قطر وسلطنة عُمان اللتين حافظتا على علاقات مع الجمهورية الإسلامية من منطلقات مصلحية ودينية مختلفة.
- ثالثاً : تمكن إيران من التغلغل في الجسم العربي الإسلامي في المنطقة، تارة بتعزيز العنصر الشيعي وتقويته بالسلاح والمال والموقف، وطوراً باستخدامه في تنفيذ أجندات طهران الإقليمية والدولية، وهذا التغلغل لاقى مَن يسانده سنيّاً إنطلاقاً من كره الأنظمة التقليدية، ومن رغبة في الاستيلاء على السلطة في الدول العربية وصولاّ الى إزكاء الصراعات الأهلية في اليمن والعراق وسوريا، ومصادرة الورقة اللبنانية عبر حزب الله لاستخدامها المزدوج في الضغط على أميركا وإسرائيل والضغط على العرب وأنظمتهم.
- رابعاً : الإنقسام العربي- العربي و الإسلامي- الإسلامي أنعكس أيضاً، لا بل كانت باكورته الأولى الإنقسام الفلسطيني - الفلسطيني نفسه الذي أثّر كثيراً على قوة تضامن العرب مع قضيتهم بحكم أن الفلسطينيين في لحظة ما، خاضوا صراع سلطة بدل الاستمرار في المقاومة السياسية والعسكرية للمحتل، فدخلوا أحلافاً ومحاور، كل طرف لنصرته على الآخر.
فالفلسطينيون انقسموا من ضمن منظمة التحرير الفلسطينية، ثم انقسموا بين ضفة وقطاع، والكل يذكر تاريخ الصراع بين شطري الأراضي المحتلة وكيف انتصرت حماس في غزة وحكمتها، وكيف احتفظت فتح بالضفة وانبثقت منها منذ اتفاقات أوسلو السلطة الفلسطينية الحالية.
فبمجرد انقسامهم وتصارعهم مع أنفسهم، خسر الفلسطينيون قسماً هاماً من الدعم العربي رغم استمرار ريادة الدور المصري والأردني والسعودي في محاولات رأب الصدع لكن بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل. - خامساً : العنصر التركي الذي دخل بقوة في خلال الثورات العربية لدعم الإسلام السياسي كما في مصر وسوريا وتونس وليبيا، الا أن فشل الإسلام السياسي في إيجاد دعائم صلبة لثوراته من الداخل، أدى الى خسارته الثورة و المواقع الثورية كافة التي كان قد حققها، فعادت البوصلة عربية – عربية، وخرجت من نطاق التوظيف التركي في مواجهة خصوم أنقرة مع أنظمة دول المنطقة.
- سادساً : مع تلاشي قوة الدعم والتأييد للقضية الفلسطينية بفعل العوامل المذكورة أعلاه، ومع ظهور طبقة جديدة من الحكام الشباب في دول الخليج ( على سبيل المثال لا الحصر ولي العهد محمد بن سلمان في المملكة العربية السعودية والشيخ محمد بن زايد آل نهيان في دولة الامارات والشيخ تميم بن حمد إل ثاني في دولة قطر) ذات الطموحات التقدّمية والتنموية لدولهم ومنطقتهم، وتراجع حكم الحرس العربي والخليجي القديم والأساليب القديمة في تعاطي السياسة، تحوّل اهتمام العالم العربي والإسلامي بعد استرجاع حكمه من أيادي ثورات الربيع العربي الى أولويات الاهتمام بالداخل، فباتت الدول العربية على قناعة بأن أفضل وسيلة لتجنب ثورات جديدة ودخول أجنبي لتوظيف نقاط ضعف الدول العربية في دعم تلك الثورات، هو في التنمية والتطور ومواكبة العصر ومحاكاة المستقبل، فتركّز اهتمام الحكام الجدد على دولهم وشعوبهم، فيما اعتبرت القضية الفلسطينية، وقد أخذت سبعين عاماً من اهتمامات وجهود وتضحيات العرب على ما بدى لمعظمهم، من دون جدوى بدليل تنكر الفلسطينيين لكل التضحيات التاريخية وتفضيلهم إيران وتركيا في لحظة ما على أهل جلدتهم ودينهم وقوميتهم.
في الخلاصة : القضية الفلسطينية لا تزال في الوجدان العربي كقضية حق، لكن لم تعد في سلّم أولويات معظم الدول العربية المؤثِرة بدليل سلسلة اتفاقات التطبيع مع إسرائيل أو ما عُرف باتفاقيات إبراهيم، واذا كانت المملكة العربية السعودية لا تزال الى الآن تشترط للتطبيع مع إسرائيل حلّ الدولتين والقدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، فمن باب المحاولة الأخيرة للتاريخ، في وقت باتت الحسابات الاستراتيجية والجيو سياسية وخلط أوراق المنطقة والعالم على نار حامية منذرةً بتقلبات وانقلابات ضخمة وعظيمة.
فكل العرب باتوا مدركين أن إسرائيل والفلسطينيين محكومون بالعيش معاً وهو ما يحصل حالياً. والقضية قضية الفلسطينيين قبل أن تكون قضية العرب، والعرب يساعدون الفلسطينيين بقدر ما الفلسطينيون يساعدون أنفسهم، وعليهم أن يستوعبوا أن زمن مقاتلة الجميع والموت عنهم ومن أجلهم قد ولى الى غير رجعة، وكل ما يُقال ويُشاع هو من قبيل "الفقاعات الإعلامية" وإظهار الحمية الإعلامية والكلامية، فيما أثبتت التجارب ولا تزال تثبت كل يوم أن ما من بلد عربي في المنطقة مستعد أن يدخل في مواجهة مع إسرائيل بعد اليوم.
ولمَن تخدعه مظاهر الحمية الإيرانية في المنطقة للقضية الفلسطينية يكفي، لإثبات التخادم بين طهران وتل أبيب، أنه مضى أكثر من 30 عاماً وإيران تردد بأنها ستقضي على إسرائيل، وها هي الى الآن، ورغم ما تعتبره من تطور هائل في قدراتها العسكرية والتكنولوجية وحتى النووية، تغرِق الدول العربية بالدم والموت والدمار عنها ومن أجلها، وآخر تجليات هذا التخادم على حساب المنطقة كلام أحد المسؤولين الإيرانيين بأن ايران سترد على إسرائيل بضرب دول المنطقة بدل ضرب إسرائيل نفسها.
فبحجة القضية الفلسطينية، إحتلت إيران 4 دول عربية، وأنشأت 6 جيوش في المنطقة لحماية مصالحها …
وبحجة القضية الفلسطينية، توغّلت إيران في النسيج المجتمعي لدول المنطقة وزرعت القلاقل وعدم الاستقرار والفوضى والدمار والانهيارات الإقتصادية والسياسية والأمنية في الدول التي تحتلها …
وبحجة القضية الفلسطينية، قسّمت المجتمع الفلسطيني ولا تزال …
وبحجة القضية الفلسطينية، حاربت ولا تزال العالم العربي السنّي بدل محاربة إسرائيل في الميدان.
فهذا هو مفهوم إيران للدفاع عن القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين … وهذا هو الواقع العربي من القضية الفلسطينية .