أيام ثلاثة حدّدها الأوروبيون للوفد الإيراني من أجل العودة الى فيينا للتوقيع أو لإعلان رفض الإتفاق ... أيام ثلاثة يُفترض أن تنتهي مع لحظة كتابة هذه السطور، ولا رد إيراني معلن حتى هذه اللحظة.سبق أن أشرنا في مقالنا الأخير تحت عنوان " المستنقع النووي الإيراني " الى وجود انقسامات حادة داخل النظام في طهران حول موضوع الإتفاق وتوقيعه.في هذه الإثناء، برزت قضية إتهام الولايات المتحدة إيران بالتآمر على قتل مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، الأمر الذي نفته طهران بقوة محذّرةً واشنطن من أي تحرك ضد المواطنين الإيرانيين تحت ذريعة هذه الإتهامات، فيما حذّرت واشنطن طهران من عواقب وخيمة في حال الإعتداء على مواطنيها.هذه القضية التي طفت على سطح الأحداث في لحظة كانت كل الأنظار مشدودة فيها الى طهران بانتظار الجواب أو الرد الإيراني على مسوّدة الإتفاق بعدما تنازلت إيران عن شرطي شطب الحرس الثوري عن قائمة الإرهاب وشرط الضمانات بعدم إلغاء الإتفاق النووي لاحقاً مع وصول إدارة جمهورية الى البيت الأبيض، تبدو وكأنها لعبة تبادل الضغوط بين واشنطن وطهران لحمل الأخيرة على الذهاب باتجاه الحلحلة والقبول بالإتفاق بصيغته الأوروبية النهائية.
من جهة أخرى، أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" بالأمس الى أنه وعلى الرغم من المساعي الجارية بين واشنطن والرياض لإعادة العلاقات الثنائية الى وضعها الطبيعي إلا أنه برزت قضية إتهام القضاء الأميركي لجاسوس يعمل بحسب إدعاء القضاء الأميركي لصالح مكتب سمو الأمير محمد بن سلمان، وهو ملف يُنذر بتوتّر أميركي - سعودي مرتقب في حال وصلت إدارة بايدن الى قناعة بعدم جدوى الإنفتاح على المملكة لكونها لن تستجيب لطلبات الولايات المتحدة والغرب بموضوع النفط وزيادة الإنتاج بالنسبة التي تريدها واشنطن.
والمعلوم أن المملكة العربية السعودية قد تمكّنت من إقناع شركائها في أوبيك بزيادة الإنتاج لنحو 100 ألف برميل كحدٍ أقصى، إستجابة منها ولو بشكل جزئي لطلب الأميركيين الذين رأوا في ذلك بادرة طيبة ولكن غير كافية لكونهم كانوا يطمعون بزيادة نحو 500 ألف برميل على الأقل.
وبالتزامن تجري حالياً مناورات عسكرية مشتركة بين المملكة والولايات الأميركية المتحدة تحت عنوان " الغضب العارم، " تلك المناورات ليست صغيرة وليست ضخمة ولكنها تؤشر الى عودة العلاقات بين البلدين الى مستوى التحالف والشراكة الاستراتيجية ما لم يعكرها لاحقاً أي شعور بالخيانة من الجانب الأميركي.هذه المناورات تزامنت مع موافقة وزارة الخارجية الأميركية على صفقة صواريخ باتريوت بقيمة 3 مليار دولار للمملكة إثباتاً لتعزيز التعاون الأمني والعسكري بين البلدين.
كل هذه المعطيات في الظاهر تغطي ما يجري حقيقة في بواطن الأمور، إذ في الحقيقة هناك ثمة إحباط أميركي من المملكة، فواشنطن ترى أن الزيادة في إنتاج النفط لا تكفي لهبوط سعر البرميل، وهدفهم الأول ضرب إيرادات روسيا من النفط بتخفيض سعر البرميل الى الحد الأقصى المؤذي لاقتصاد روسيا، وهذا الشعور بالإحباط من المملكة وأوبيك يعزّز التيار داخل البيت الأبيض الذي يرى أن البديل الذي لا بد منه لتأمين مطالب الغرب إيران : الأمر الذي يزيد من المراهنات على إبرام الإتفاق النووي الإيراني لحصول الأميركيين وأوروبا على ما يريدونه من نفط وطاقة بدل روسيا، وتدمير الإقتصاد الروسي المتّكل على واردات النفط والغاز المباع للهند والصين.
من هنا إشكالية تزلًف الغرب من أميركا الى أوروبا لإيران بعد أكثر من 17 شهراً من المفاوضات للعودة الى الإتفاق والسبب واضح : عودة إيران الى الإتفاق النووي ستؤدي الى تدني سعر برميل النفط الى 80$ وهو السعر الخيالي الذي لن يستطيع الغرب الحصول عليه، لا من أوبيك ولا أوبيك بلاس ولا من المملكة العربية السعودية، فيما إيران مستعدة لإغراق السوق كما تعد الغرب، بحيث تصبح البديل الطبيعي للنفط والغاز الروسي أقله في المدى المنظور .
فسعر البرميل على 80$ سيحقق الكثير من المكاسب للأميركيين وبخاصة لإدارة الرئيس جو بايدن وله شخصياً من خلال زيادة شعبيته، خصوصاً في ظل استطلاعات رأي في الولايات المتحدة منذ أيام تشير الى إزدياد شعبية الرئيس جو بايدن خلال الشهرين الأخيرين بحسب ما تشير اليه وكالة رويترز، وقد بلغت نسبة المؤيدين لبايدن من الشعب الأميركي 40%.
ومن المكاسب الأخرى المتوقعة، إنخفاض نسب التضخم في أوروبا مع إنخفاض أسعار البنزين والنفط خصوصاً وأن إنخفاض سعر البرميل الى 80$ سيسدد للإقتصاد الروسي ضربةً موجعة لأن الممولان الأساسيان لحرب روسيا- أوكرانيا هما الهند والصين اللتين تشتريان من الروس نفطهما بقيمة 75$ للبرميل، ما يعني أنه وفي حال أصبح سعر البرميل 80$ في الأسواق العالمية فلن يعود هناك فارق كبير للبلدَين المستوردَين بين النفط الروسي والنفط العالمي، وسيفضلان التعاطي مع سعر السوق من خلال أكثر من مصدر غير روسيا.
الصفقة النووية باتت جاهزة للتوقيع، لكن إيران وبعد موافقتها وضعت شرطاً جديداً يتعلق بالمواقع النووية الإيرانية الثلاثة حيث يتم تخصيب الأورانيوم بشكل كبير،وهي مواقع سرية حيث تطالب إيران وكالة الطاقة الذرية بالتنازل عن تفتيش تلك المواقع.أما إسرائيل فقد حصلت في العام ٢٠١٨ على وثائق سرية حول برنامج إيران النووي، ومن بين تلك الوثائق ما يتعلق بالمواقع السرية الثلاثة المشار اليها أعلاه، وهذا ما تسبب في إدانة الوكالة لإيران مؤخراً على سلوكها، إذ لم يتم السماح للمفتشين الدوليين بالدخول الى تلك المواقع، فإيران تطالب بالتغاضي عن تفتيش تلك المواقع الثلاثة.وبحسب إسرائيل، فإن إيران ليست في وارد التنازل عن هذا الشرط حول المواقع الثلاثة السرية، وهي في الواقع لا تريد التوقيع على الإتفاق النووي، وستفشّل الإتفاق خلافاً لرأي الأميركيين والأوروبيين، والتقييم في واشنطن يشير الى حاجة المرشد علي خامنئي الى أموال لأن إيران تمر بمشكلات إقتصادية كبيرة، ما يؤثر على شعبية النظام وهذا ما سيدفع بالإيرانيين الى التوقيع للإفراج عن الأموال المحتجزة.المرشد خامنئي متردد برفض أو قبول التوقيع على الإتفاق النووي، ومن المتوقع أن تردّ طهران على مسوّدة الإتفاقية خلال الساعات المقبلة.
في هذه الأثناء، حصل حادث لافت منذ أيام في اليمن حيث وقع انفجار في صنعاء تبيّن أنه ناجم عن انفجار مخزن سلاح لتركيب الصواريخ الباليستية، وقد حصل الانفجار عن طريق الخطأ أثناء تجميع صاروخ باليستي ونقله، وكان يُعدّ لإطلاقه على المملكة العربية السعودية، وقد نجم عنه مقتل 6 خبراء إيرانيين ولبنانيين في معسكر الحفا التابع للحوثيين بصنعاء (ما يُثبت وجود عناصر من حزب الله في اليمن وتورط الحزب في حربه ضد المملكة)، فهذا الصاروخ البالستي كان يعد لإطلاقه في لحظة ما ضد المملكة في ظل أجواء توحي بعودة بوادر التوتّر العسكري والأمني في اليمن، وبروز عوامل عودة المواجهات العسكرية بين الحوثيين والحكومة الشرعية وحلفائها.أهمية هذا الحدث، ربطاً بموضوع الإتفاق النووي العتيد، أنه لم يعالج موضوع برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية في المنطقة، ولم يعالج بالتأكيد موضوع اليمن، ما يعني أنه في حال توقيع الإتفاق النووي واستمرار أعمال استهداف المملكة العربية السعودية بالصواريخ الباليستية فإن هذا الوضع من شأنه أن يتسبّب في عودة التوتر الى العلاقات الأميركية - السعودية، ما يعني العودة الى ما قبل قمة جدّة، الأمر الذي قد يكون خطيراً خصوصاً اذا قرر الرئيس جو بايدن بعد توقيع الإتفاق، التخلي مجدداً عن المملكة والخليج والعرب ونفطهم في مقابل النفط الإيراني.
الأيام والساعات المقبلة قد تحمل الكثير من المفآجات ...