أخطر ما حدث في العراق خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية أن طهران تمكّنت من كسر معادلة المرجعيات الشيعية المستقلة عنها وأولهم مقتدى الصدر، حيث استخدمت سلاح المرجعيات فعزلت الصدر وطوعت الحائري وجنّدت السيستاني لصالحها، وربطت مجدداً ولاء الشيعة بمرجعية قم الإيرانية وعلى رأسها المرشد علي الخامنئي.
ما حصل في العراق خلال الساعات الماضية يدفع بكل مراقب سياسي الى طرح أسئلة جوهرية ليس أقلها السؤال عن كيفية التعاطي مع ما بات يُعرف "بالمسألة الشيعية" في المنطقة من العراق الى لبنان.
من الواضح تمام الوضوح ترسّخ نظام ولاية الفقيه في العمق الشيعي في الشرق الأوسط وتبعية شيعية عمياء تتجاوز الحدود والمحاور والتحالفات والإتنيات والأنظمة الوطنية وحدود الدول الى ما هو أعمق وأخطر، وهو مغروس في الفكر الجماعي للشيعة إينما وجدوا.
فما حدث في العراق لا يعني فقط العراق والعراقيين ولا يعني فقط شيعة العراق بل كل دول المنطقة وشيعة المنطقة، حيث حان الوقت للتفكير ملياً في كيفية مقاربة المسألة الشيعية وفي كيفية التوفيق بين متطلبات تعزيز الدول الوطنية من جهة وعدم التصادم مع العامل الشيعي الموالي لولاية الفقيه من جهة أخرى إن أمكن التوفيق، وفي رأينا من الصعب جداً إتمام هذا التوفيق.
استخدام إيران سلاحاً فتاكاً في العراق وهو سلاح المرجعيات الدينية عمل خطير جداً لأنه ينسحب لا محالة على شيعة دول المنطقة كافة، وقد ذُبح مقتدى الصدر سياسياً ومعنوياً كي لا نقول اغتالته إيران معنويا بالأمس بعدما حاصرته بهذا السلاح الفتاك فلم يقوَ على قلب الطاولة على مرجعيتها، لأن مرجعيته من والده المرجع محمد صادق الصدر الذي اغتالته إيران بالتزامن في حينه مع تعيين قاسم سليماني قائداً لفيلق القدس آنذاك، وكان كاظم الحائري قد أعلن ولاءه لقمْ وحاصر دينياً ومعنوياً وسياسياً مقتدى الصدر، فلم يعد أمام الأخير الا التراجع واعتزال الحياة السياسية ودعوة إنصاره للانسحاب من المنطقة الخضراء وإنهاء حتى مظاهراتهم السلمية.خروج الصدر عن سياسة إيران تم اعتباره في قمْ ولدى مرجعيات العراق الشيعة شواذاً عن القاعدة لأنه، حتى الزعامة السياسية هي المرشد الأعلى خامنئي وهو المرجع الأعلى للشيعة في الدين والدنيا والسياسة، وبالتالي لا يُسمح لأي رجل دين شيعي سواء أكان مرجعيةً أم قائداً سياسياً أن ينافس الولي الفقيه في طهران وقمْ، فالمرجع الأعلى ديني و سياسي وله وحده السلطة الدنيوية والدينية على المؤمنين.ما حصل في العراق أمس أثبت مرة جديدة قوة المرشد علي الخامنئي على الشيعة في دول المنطقة، فإيران حاولت ومنذ أن فاز الصدر في الانتخابات البرلمانية وأراد تشكيل حكومة أكثرية قطع الطريق عليه فانسحب من البرلمان وأقفله عليه وعلى الجميع موصداً أي باب لقيام حكومة، فأرسلت اليه طهران إسماعيل قآني لإعادته الى بيت الطاعة لكنه لم يفلح في ذلك، ثم السفير الإيراني في بغداد الذي كان له نصيب في المحاولات مع الصدر وأيضاً من دون نتيجة، فلعبت إيران ورقتها القاتلة دينياً ومعنوياً من خلال الضغط على المرجعية الشيعية كاظم الحائري لاعتزاله، ما نقل مرجعية الصدر وتياره مباشرة الى المرشد الأعلى في طهران.
ومع اعتزال الصدر وكسبت إيران معركتها معه، فعادت طهران لتفرض شروطها على العراق بمباركة من المرجعية السيستاني الذي لا يقبل بالصدر، وهكذا ستتمكن طهران في المرحلة المقبلة من فرض حكومة جديدة وعقد جلسة برلمانية لتعيين ربما رئيس جديد للجمهورية مع تغيير قانون الانتخابات، من خلال تفيير المفوضية وحل البرلمان إفساحاً في المجال أمام انتخابات مبكرة، ما يوطد سيطرة إيران على المؤسسات العراقية لبضع سنوات.
ما حصل خلال اليومين الماضيين في العراق والمواجهات المسلحة الدامية التي جرت واقتتال العشائر بين بعضها البعض يشكل نموذجاً قد يتكرر في العراق ولبنان بشكل خاص، فالأزمة في العراق مستمرة ولم تحل والقوى العراقية السيادية المتحالفة مع الصدر لن تسكت بعد اعتزاله العمل السياسي، وبالأمس هدد رئيس وزراء تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي بالاستقالة اذا استمرت الفوضى في العراق، ما يعني استمرار التأزم وتفاقمه، فاللعبة لم تنتهِ بعد في العراق رغم سطوة إيران ومرجعيتها العليا على الحياة السياسية والمكوّن الشيعي بأكثرياته وأقلياته.
نجاح إيران في الإمساك مجدداً بالعراق يُرسل رسالة واضحة للمفاوض الأميركي في الملف النووي مفادها أن طهران لا تزال تمسك بأهم أوراقها في المنطقة الخضراء حديقة إيران الخلفية، وبالتالي قدرتها على السيطرة وتثبيت نفوذها في دول عربية تحتلها طهران، وبالوقت نفسه يرسل رسالة الى الجوار العربي الخليجي بأن العراق لا يمكن الا أن يكون تحت قبضتها، وبالتالي قدرة إيران على تفشيل مشاريع "الشام الجديد" وعودة العراق الى الحضن العربي الخليجي ومفاعيل قمة جدّة وسواها من محاولات خليجية عربية لإعادة العراق الى عروبته.في الحقيقة يمكن القول إن الخاسر الخارجي الأكبر من ربح طهران لهذه الجولة في العراق هو الخليج والعرب، فما حصل أكد استحالة عودة العراق حالياً الى عمقه العربي.لا يبدو في المشهدية الجيو سياسية الراهنة في المنطقة أن مرحلة الفوضى قد آن آوانها و أن الأميركيين لا يريدون الفوضى في هذه المرحلة على ضفة إيران الغربية أي منطقة الشرق الأوسط ولا على ضفتها الشرقية في أفغانستان وباكستان المرشحتين لتكونا ساحة تلك الفوضى العتيدة المزعزِعة لأمن شرق آسيا حتى بحر الصين.دوام الحال هو بالتأكيد من المُحال، وما علينا كشعوب دول محتلة من إيران الا أن ندرك عمق أزمتنا الشيعية وحقيقة ما ينتظرنا إن قبلنا بالرضوخ لإيران التي لا سلطة لها علينا خارج سلطتها على شيعة المنطقة، فإيران كسبت هذه الجولة في العراق وأنهت الصدر معنوياً ودينياً فماذا ستكون ردة فعل العرب؟ هل التفاوض مع إيران وتكريس دورها الإقليمي المزعزِع لاستقرار المنطقة أم المواجهة؟ وعندها كيف وبموجب أي استراتيجية فعالة منتجة وناجحة؟
بعد إخفاء أو تغييب الأمام موسى الصدر منذ ٤٠ عاماً وإنهاء مقتدى الصدر معنوياً في العام ٢٠٢٢ بات على شيعة المنطقة أن يختاروا بين التبعية لإيران أو الولاء لدولهم الوطنية. في السياسة ما من شيء ثابت ونهائي مهما طال الزمن وتضافرت فرص السقوط، لكن المهم أن نعرف كيف نقنع الأخوة الشيعة بضرورة وقف الخلط بين الدين والوطن، والمزج بين الدين والسياسة كمرحلة تأسيسية فكرية لخروجهم مما هم فيه من تأثر وتبعية.
المطلوب منا كعرب أن نواجه انقلاب إيران على عروبة شيعة العراق بانقلاب مضاد ليس فقط على منظومة إيران بل وأيضاً على فكرتها ونظرتها الى حوكمة المنطقة انطلاقاً من مفهومها التيوقراطي الديني الخطير والمدمر.
ما حصل في العراق بالأمس وبعدما كان نذير انتفاضة وثورة على الاحتلال الإيراني تحول الى محطة مهمة جداً للتفكير ملياً في عمق الأزمة الإقليمية في عالمنا العربي ودول منطقتنا أمام المسألة الشيعية التي نجحت طهران في خلقها وتسعير نارها وتأجيج مظاهر سطوتها حيث لإيران وجود.أما المحصّلة فهي صراع جليّ، وهو صراع عربي- فارسي على امتداد جغرافية المنطقة والعالمين العربي والإسلامي.