يخطىء مَن يظن أننا لم ندخل بعد في مدار حرب عالمية بكل أبعادها السياسية والعسكرية والاستخباراتية، حيث أنه لم يعد ينقص سوى إعلان الدول حنقها على بعضها كي تنطلق المواجهات الحاصلة في جزء منها تحت الطاولة الى واجهة الأحداث.
الأيام القليلة الماضية سجّلت سلسلة خطيرة من الأحداث التي اذا ربطناها ببعضها نحصل على مشهدية شديدة الخطورة.
حادث تسرّب الغاز من أنابيب نورد ستريم في بحر البلطيق أتى لتتويج حالة احتقان دولي قل نظيره منذ ما بعد انتهاء الحرب الباردة، فالكل يكاد يتّهم الكل بالحادث الا أن غالبية التهم تصب ضد روسيا.في قراءة جيو سياسية معمّقة لما حصل فإن التسريب ( الذي لا نزال حتى الساعة لا ندري إن كان نتيجة عمل تخريبي أو نتيجة عطل تقني مع تصاعد المواقف السياسية المتهِمة لروسيا وأخرى حتى للأوكرانيين ) يمكن وضع الحادث في إطاره الأشمل هو إطار المواجهة الدولية بين روسيا والناتو في شمال القارة الأوروبية امتداداً حتى المحيط المتجمّد الشمالي.
بداية مما لا شك فيه أن التوتر بين روسيا وأوروبا على أشدّه، لأن الحادث أثار شكوكاً بكونه عملاً تخريبياً، وهو أمر لمّح اليه الكرملين نفسه من دون أن يستبعد أية فرضية، فيما رئيسة وزراء الدانمارك رجحت حصول عملية تخريبية.الحادث ليس الأول منذ بدء الأزمة الدولية في أوكرانيا والذي طال نورد ستريم، إذ شكّل هذا الموضوع "نقطة تجاذب" بين روسيا والأوروبيين وهو إحدى النقاط الساخنة في أزمة الطاقة بين أوروبا وروسيا منذ 24 شباط الماضي، تاريخ بدء موسكو عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا.ففي هذا التاريخ، بادرت أوروبا الى خفض وارداتها من الغاز الروسي فردّت موسكو بالحديث عن عقبات فنية أدت الى توقفات مفاجئة في إمدادات الغاز بحجة تلك العقبات التي تربك الضخ، وقد ردّ الغرب باتهام موسكو باتخاذ الغاز بمثابة سلاح مواجهة وابتزاز.في شهر أيار الماضي، أغلقت غازبروم خط الغاز يامال الذي يمر عبر بيلاروسيا وبولندا لنقل الغاز الى المانيا ودول أوروبية أخرى، وفي منتصف شهر حزيران الماضي خفّضت شركة غازبروم إمدادات الغاز بنسبة ثلاثة أرباع عبر نورد ستريم 1، أي أن التخفيض حصل من 270 مليون متر مكعب من الغاز يومياً الى 40 مليون متر مكعب.وفي منتصف شهر تموز الماضي، أغلقت شركة غازبروم نورد ستريم إغلاقاً كلياً مدة 10 أيام بحجة أعمال صيانة لتعود موسكو في شهر آب الفائت وتوقف تماماً العمل بخط نورد ستريم 1 بحجة إصلاحات ضرورية.موسكو تتخذ من العقوبات الغربية مبرراً لاتهام الغرب بالتسبّب بالإنقطاعات في إمدادات الغاز، بينما الغرب وفي طليعته أوروبا يتهم موسكو باستخدام الغاز سلاحاً في حربها ضد أوروبا انطلاقاً من حرب أوكرانيا.
كل هذه المعطيات واضحة المعالم إنما هي ليست محصورة فقط بمكانها وزمانها اذ إن ما نراه حالياً انطلاقاً من ساحة المواجهة في أوكرانيا ليس سوى الجزء الظاهر من الأزمة الدولية.موضعياً، يقع الموقع الجغرافي والجيو استراتيجي لأنابيب نورد ستريم 1 و2 ضمن منطقة مواجهة وتوتر نووي بين روسيا والغرب أبعد من حرب أوكرانيا.
أولاً : القوة التي تتحكّم بطرق الملاحة الدولية هي التي تتحكّم بمصير التجارة الدولية وبالتالي بمصالح القوى ومفاتيح سيادة العالم، ومن هنا فإن الصراع الدولي الذي ينطلق من أوكرانيا ظاهرياً إنما يندلع من نقطة مواجهة أبعد من أوكرانيا، وهي تتمركز في المحيط المتجمد الشمالي حيث الصراع على أشدّه للسيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية والغنية بالموارد الطبيعية.
ثانياً : روسيا تتهم الولايات المتحدة بقطع مواردها في تلك المنطقة وتقايضها بعمل مثيل في الاسكا التي اشترتها واشنطن، وقد صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ فترة أن من حق روسيا السيادي السماح لسفنها بعبور القطب الشمالي، فالصراع على أشدّه على قمة العالم بين روسيا والغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة الأميركية على تلك السيادة العالمية انطلاقاً من القطب الشمالي وشمال أوروبا.
ثالثاً : الثروات الدفينة في تلك المنطقة من العالم أدت الى إثارة شهية القوى العظمى منذ عقود ولكن اشتد الصراع عليها منذ عقدين من الزمن، وقد تحوّلت تلك المنطقة الى ساحة صراع ونفوذ ومنافسة، ما وضع الدول الثماني المطلة على المحيط المتجمد الشمالي أمام ضرورة التكيّف مع المستقبل الذي ينتظرها، فالناتو بالمرصاد على الصفيح المتجمّد وأمام روسيا خيار صعب بالمواجهة، فذوبان الجليد في القطب الشمالي يرسم خريطة العالم الجديد في ظل التغيّر المناخي الذي قد يكون العامل في إعادة أمجاد روسيا، الأمر الذي لا يمكن للغرب والولايات المتحدة والناتو القبول به.أمين عام حلف الناتو ينس ستولتنبرغ يقول إن منطقة القطب الشمالي مهمة جداً لحلف الناتو، وبانضمام فنلندا والسويد الى الحلف تصبح 7 دول من أصل ثمانية مطلة على المحيط المتجمد أعضاء في الناتو، وهو التصريح الذي يعكس النظرة الاستراتيجية الهامة والبعيدة المدى للغرب والقوى الغربية في سيطرتها على منطقة القطب الشمالي.من هنا فإن انضمام فنلندا والسويد الى الناتو وإن جاء ظاهرياً تحت وقع الحرب في أوكرانيا الا أنه في الحقيقة تتويج لمرحلة تحضيرات واستعدادات للمعركة الكبرى في شمال الكرة الأرضية حيث الرهانات الحقيقية على المحك وحيث الصراع الدولي قد ينعطف في أي وقت نحو المواجهة ... النووية.
رابعاً : "روسيا بوتين" تعلم حجم التحديات التي تواجهها في القطب الشمالي ومن أجل ذلك تبخل في دفع كل قوتها في أوكرانيا لتوفير القوة الضاربة في المحيط المتجمد الشمالي ولعله هنا الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه الرئيس بوتين لاعتقاده أن معركة أوكرانيا ستكون "نزهة" له ليقفل على الغرب باب الشرق ويحاصر القوى الغربية والناتو في الشمال الأوروبي حيث يستطيع التحكم بميزان القوة مع القوى الغربية، لكن حساباته لم تنجح بدليل دخول عمليته الخاصة في أوكرانيا شهرها الثامن وربما التاسع وانكفائه عن خطته الأصلية التي كانت تقضي بالوصول الى كييف وضم أوكرانيا كلها الى دولته، فاستعاض عن ذلك باستفتائه غير الشرعي لأربع مناطق أوكرانية فقط تمهيداً للجلوس على طاولة حل الملف الأوكراني متى نضجت التسوية.
الرئيس بوتين كان قد صرّح بأن انضمام فنلندا والسويد الى الناتو لا يشكل له مشكلة لكنه لم يكن يعتقد انه سيدخل في معركة استنزاف لروسيا على جبهتها الجنوبية في أوكرانيا، ما أثّر تأثيراً كبيراً على قدرة موسكو في الإعداد الجيد لمواجهة القوى الغربية في الشمال، وما انضمام فنلندا والسويد الى حلف الناتو تحت شعار مساندة أوكرانيا الا التوقيت الملائم الذي لطالما انتظره حلف الناتو لمحاصرة روسيا شمالاً مستفيداً من قدرات البلدين الشماليين العسكرية والقتالية والمناخية الباردة.
خامساً : ذوبان الثلوج في القطب الشمالي دق ناقوس خطر العلماء والسياسيين وقادة العالم الغربي لأن العلماء يعتقدون أن المناخ المعتدل في وسط أوروبا بدأ ينتقل تدريجياً الى الشمال، ما سيكون لصالح روسيا التي تنعم بأكبر مساحة خضراء عند ذوبان الثلوج شمالاً وتليها كندا، بحيث تصبح روسيا ليس فقط دولة نفطية بل وأيضاً ستتحول الى دولة زراعية كبرى، من هنا فإن الشرخ والانقسام والاستقطاب العالميين حالياً نابعين من ترقّب خط التماس العالمي الجديد الذي سيتظهر مع ذوبان الجليد الشمالي، الذي سيعزز ليس فقط الطاقة والثروات الطبيعية بل وسيفتح مجالاً جديداً للمواصلات العالمية التي ستستعمل شمالي روسيا الخضراء طريقاً للتجارة والتواصل العالميين، ما سيعود بالفائدة أيضاً على الصين التي ستشق طريقاً جديداً للحرير عبر الأراضي الشمالية الروسية الجديدة.روسيا استثمرت المليارات لتحقيق هذا الحلم لأنه يدرّ لها المليارات كما لدول أخرى، ويشكل تحولاً كبيراً في مسار التجارة العالمية ويهم دول كبرى كما فرنسا التي سيكون لها حصة من "الكعكة الجديدة" عبر اتفاقية تسييل الغاز الروسي بين شركة توتال وروسيا عبر شركة نوفاتك الروسية، الى أن جاءت العقوبات الغربية على روسيا بسبب حرب أوكرانيا لتحبط هذه الاستثمارات الضخمة.
بعد كل هذا، هل نتعجب من حادثة تسريب الغاز في خط نورد ستريم 1؟
من الواضح اذاً أن وراء الأكمة ما وراءها وأننا أمام صراع دولي مفتوح لا نرى منه الا القسم الظاهر في أوكرانيا وتايوان والشرق الأوسط، فيما الذي يحصل حقيقة في الكواليس أبعد وأخطر بكثير ...