أوكرانيا : تصعيد من أجل الحرب أو السلام

shutterstock_2108082854-100920540-large

إزاء التصعيد العسكري الخطير غداة قصف الجيش الروسي لمناطق شاسعة من أوكرانيا أمس رداً على عملية تدمير جسر كيرتش، ومع تصاعد التصاريح السياسية والعسكرية المندّدة والمتوعّدة بين الجانبين الروسي والأوكراني، وبالتزامن مع تعيين قائد جديد للقوات الروسية في أوكرانيا عُرف عنه بطشه ودمويته وهو الملقب ب "الجنرال ارمجدون"، يُطرح أكثر من سؤال حول مصير هذا التصعيد، لاسيما وأن بوادر تورط إقليمي أوسع بدأت تلوح في الأفق القريب مع دخول بيلاروسيا على خط الصراع.ومن تحليل المعطيات في الساعات الأخيرة، يمكن التوقّف عند الملاحظات الآتية :

أوﻻً : مجرد لجوء الرئيس فلاديمير بوتين الى أسلوب القصف لمدن ومواقع استراتيجية أوكرانية هو إقرار بالضعف، لاسيما اذا أخذنا باﻻعتبار الأهداف التي كان الكرملين قد أعلنها مع بداية ما أسماها "العملية الخاصة في أوكرانيا"، والتي كان في عدادها احتلال أوكرانيا وتعيين حكومة موالية لموسكو بعد القضاء على نظام النازيين في كييف،فإذا بموسكو والرئيس بوتين، وبعد ضرب هيبته العسكرية إثر تراجعات جيشه على الجبهات خلال شهر أيلول الفائت وحتى الآن وﻻسيما في الشرق والجنوب الشرقي، وتلقيه "صفعة شخصية" بنسف جسر كيرتش التي ضربت العنفوان الروسي في الصميم، اذا بموسكو وسط كل هذه التطورات وكأنها تعود الى المربع الأول من العملية باﻻعتداء على المدن والبنى التحتية والأماكن السكنية، ﻻ لشيء سوى انتقاماً من الأوكرانيين وإرهابهم بغية إنقاذ ماء وجهه، خاصة في ظل التقارير والمعلومات المتواترة عن تصاعد النقمة والغضب والضغوط داخل الحلقة المقربة للرئيس بوتين نتيجة الإخفاقات العسكرية على الجبهات مع الجيش الأوكراني، ونتيجة ما يعتبرونه تطاوﻻً أوكرانياً على هيبة روسيا ورئيسها وجيشها، من هنا يمكن اعتبار التصعيد الروسي في الساعات الماضية إقرار بالفشل ورغبة في استخدام القوة المفرطة لمحاولة استعادة عامل الخوف بالحديد والنار.

ثانياً : في الوقت الذي يحمّل فيه الرئيس بوتين كييف مسؤولية تدمير جسر كيرتش لم يشر الكرملين الى اللغز الذي أحاط بعملية التدمير، إذ ان الشاحنة المتفجرة انطلقت من الأراضي الروسية، وسائقها روسي، وخضعت قبل انطلاقها لتفتيش دقيق من السلطات الروسية، ومع ذلك لم يورد الكرملين تلك الحقائق التي تدعو الى طرح أكثر من علامة استفهام حول الضعف الإستخباراتي الروسي، والى تفشي حالة الفساد داخل أجهزة السلطة والضعف في اﻻجهزة الأمنية والعسكرية الروسية.من السهل طبعاً على الرئيس بوتين تحميل كييف المسؤولية، ومن السهل عليه توظيف هذا الحدث لإطلاق العنان لخطة قصف أوكرانيا والتي تبيّن، بحسب معطيات ومعلومات أكيدة، أنها كانت معدّة مسبقاً لتصعيد الضغط على أوكرانيا في مقابل التراجع الروسي على الجبهات والعجز في التقدّم مجدداً.والجدير ملاحظته في هذا السياق، ومن الناحية التقنية العسكرية أن مخزون الصواريخ الروسي تناقص الى الآن أكثر من ثلاثة أرباعه بحسب الخبراء العسكريين الغربيين، فيما تهالكت كميات كبيرة من الأعتدة والمعدات العسكرية بسبب اﻻستنزاف العسكري للجنود الروسيين على الجبهات، من دون أن ننسى الكم الكبير من الدبابات والأسلحة التي تركها الجيش الروسي على أرض المعارك واستولى عليها الجيش الأوكراني لدرجة انطلاق مقولة راجت في الأسابيع القليلة الماضية بأن أكبر موردي الأسلحة للجيش الأوكراني هو الجيش الروسي.

ثالثاً : على هامش الأوضاع الميدانية، برزت تصاريح في الآونة الأخيرة من الجانبين الأميركي والروسي بدت وكأنها تدعو الى الحوار لوقف الحرب وإيجاد مخارج سلمية للصراع، فجون كربي المتحدث بإسم مجلس الأمن القومي الأميركي أكد في آحدى مقابلاته المتلفزة رغبة الوﻻيات المتحدة في حل ديبلوماسي للصراع في أوكرانيا في أقرب وقت ممكن، معتبراً أن الأزمة أخذت وقتاً طويلاً، وما يجب أن يحدث هو جلوس الطرفين الى طاولة المفاوضات لإيجاد مخارج سلمية وديبلوماسية.قبله الرئيس بوتين نفسه كان قد دعى خلال كلمته بمناسبة إعلان ضم المقاطعات الأوكرانية الأربعة الى وقف إطلاق النار والعودة للتفاوض لكن من دون مناقشة مصير سكان المناطق التي ضُمت حيث القرار اتخذ وﻻ تراجع عنه على حد قول بوتين، وبالأمس دعى المستشار النمساوي الى اتخاذ خطوات لوقف التصعيد في أوكرانيا حتى ولو بدى الأمر ميؤوساً منه في الوقت الحالي كما قال.لكن وعلى الرغم من تلك التصاريح، لم يبرز الى الآن أي تصوّر جدّي لحلٍ سياسي للنزاع، ﻻ بل ما يحصل في الميدان يعاكس تماماً اﻻستعدادات السلمية المعلنة، ما يجعلنا نعتقد أن لحظة الحلول السلمية لم تحن بعد، ما يعني استمرار دوامة الصراع العسكري وترشيحه نحو المزيد من المفاجآت العسكرية التي تجعل دفة الحرب والمواجهة أقوى من دفة السلم والحوار.

رابعاً : الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي متمسكٌ برفض الحلول السياسية، وله الحق في ذلك طالما أن أرضه محتلّة وعدوان روسيا على شعبه ودولته مستمر ومتصاعد، في الوقت الذي تعلن فيه الوﻻيات المتحدة ودول أوروبا تباعاً عن تزويد كييف بالأسلحة والعتاد، وقد أعطى الرئيس جو بايدن مساء أمس وعداً للرئيس زيلينسكي بتزويده بأنظمة دفاع جوية متطورة للدﻻلة على طبيعة المرحلة العسكرية المقبلة والتي ستتميز بتدخّل الطيران الروسي في القصف، وبالتالي ضرورة تزويد الأوكرانيين بأنظمة دفاع جوي متطورة ﻻ تنحصر في الوسائط الدفاعية للطائرات المروحية أو الطائرات متدنية التحليق، بل وستشمل الأنظمة التي تهدد وتستهدف الطيران الحربي الروسي والمقاتلات الأكثر تطوراً.واشنطن مقبلة على انتخابات نصفية ومن الطبيعي أن ﻻ تقدّم تنازﻻت للروس في هذه المرحلة ولحين إتمام اﻻنتخابات فيما الرئيس بوتين سيتابع حربه ﻻستعادة هيبته ولو اضطره ذلك الى اﻻستعانة بالدول الإقليمية الحليفة لموسكو كما بيلاروسيا التي أرسلت أرتاﻻً من الدبابات القديمة الطراز الى روسيا لإعادة نشرها على جبهات شرقي أوكرانيا، الأمر الذي وتّر الأوضاع بين كييف وجارتها، وقد أعلن الرئيس البلاروسي لوتشنكو بالأمس أن فتح كييف لجبهة ضد بلاده عمل جنوني من الناحية العسكرية، علماً أن القوات المسلحة البيلاروسية ليست قوية وعتادها قديم، والأهم أن الرئيس البيلاروسي يواجه معارضة داخلية ضاغطة لأي تورط مع أوكرانيا.الكل بمَن فيهم الرئيس بوتين يدرك أن الحرب مكلفة جداً للجميع، ومَن يقرأ بين سطور كلام بوتين الذي يحاول الجمع بين فكرته بتغيير النظام في كييف وإشارته في نفس الوقت الى محدوية الضربات رداً على نسف جسر كيرتش، بما يعني تلميحاً الى عدم الرغبة في توسيع الضربات وهو يعلم تماماً العلم ما يعنيه من كلفة إن استمرت الحرب بالتصعيد وما تنطوي عليها من نتائج مرعبة للجميع.

الكل يريد تسوية لكن كل طرف يبحث عن تلك التي تحفظ له ماء وجهه الذي دونه صعوبات كبيرة، فالقصف الروسي الذي استهدف المدن الأوكرانية بالتزامن مع تغييرات هامة في القيادة العسكرية الروسية، قد يؤدي الى استعادة الروس وﻻ سيما الجيش الروسي والقيادات القريبة من بوتين ثقة ومعنويات عالية، الأمر الذي قد يؤدي الى تصعيد روسي جديد يعيدنا الى أجواء بدايات هجوم ٢٤ شباط الماضي، في مقابل إرادة أوكرانية جادة وصلبة في المقاومة وطرد المحتل الروسي، فيما وزراء دفاع الناتو سيعقدون في اليومين المقبلين قمة هامة جداً قد تسفر عن قرارات تصعيدية في وجه موسكو.

التحذير الأميركي، على لسان الرئيس بايدن، منذ أيام لموسكو بحرب ارمجدون في حال استخدام روسيا السلاح النووي يبدو أن الرئيس بوتين ردّ عليه الى الآن بعدم الرغبة في الدخول في مجهول الصراع النووي، فيما يبدو رداً في منزلة بين منزلتين : فبوتين مدرك لجدية الخط النووي الأحمر الغربي، وفي نفس الوقت مصمم على استعادة مبادرة الميدان.

اللافت في القصف الصاروخي على أوكرانيا يوم أمس أنه يُعتبر نقطة تحوّل أساسية في الحرب، وستكون له تداعيات كبيرة على سير المعارك، ومعها سيضع المجتمع الدولي أمام خيارات سياسية صعبة والأوكرانيين أمام المزيد من القوة والصمود والقتال.

فلا سلام في المدى القريب بل تصعيد واستمرار في رسم خرائط النظام العالمي الجديد بالدم والنار ... والطاقة .الرئيس بوتين يستطيع التدمير والتخريب لكن بالتأكيد لن يستطيع اﻻنتصار ...

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: