ما سجل في الأيام الأخيرة، سواء في الداخل الإيراني أو خارجه من أحداث وتطورات أمنية وعسكرية ومواقف سياسية إقليمية ودولية، يعطي انطباعاً بأن ثمة شيء ما لم يعد يسري كما يريده النظام في طهران، وأن ثمة انزﻻقات بدأت تحدث من قبل هذا النظام من شأنها أن تنقله مع إيران الى مرحلة جديدة فيها من المنعطفات واﻻنقلابات ما من شأنه توريط النظام الإيراني ووصوله الى مدارك خطيرة ومصيرية.نقول هذا ونحن نتابع مع المتابعين والمراقبين تطور المظاهرات الشعبية في الداخل الإيراني، والتي أهم ما فيه أنها كسرت نهائياً حاجز الخوف والرهبة من نظام الملالي ومرشده علي خامنئي، حيث الشعب الإيراني لم يعد يخجل أو يخشى من التعبير عن رأيه بوجوب تغيير النظام أو أقله تغيير قوانين وتشريعات حكم رجال الدين.منذ يومين، امتدت اﻻحتجاجات الى سجن إيفرين في طهران حيث اندلعت مواجهات عسكرية كبيرة كما أن المناطق الإيرانية في الأحواز العربية وبلوشستان ومناطق الأكراد منتفضة عن بكرة أبيها، بما جعل قوات الأمن والشرطة والبسيج والباسدران في حالة هلع أمام عجزهم عن ضبط الأوضاع الأمنية المتفلّتةفي المقابل، زاد نظام طهران على ورطته الداخلية الصعبة تورطاً خارجياً تجلّى باتهام كييف إيران بتزويد روسيا بدرونات( drone) متطورة تسبّبت في الإضرار بالبنى التحتية الأوكرانية في العاصمة كييف ومناطق حساسة من البلاد، في وقت أعلن فيه مسؤول السياسة الخارجية في اﻻتحاد الأوروبي جوزف بوريل أن البحث جارٍ على أدلة ملموسة حول انخراط إيران في دعم الهجوم الروسي على البنى التحتية الأوكرانية والأماكن السكنية.
ولم ينفع النفي الإيراني الرسمي في تكذيب الواقع على الأرض في اليومين والساعات القليلة الماضية.
واللافت في هذا السياق اللغة المتشددة التي بدأت تٌستخدم في الغرب ضد إيران في اتهامها بقتل المتظاهرين والمطالبة بوضع شرطة الأخلاق الإيرانية تحت العقوبات الأوروبية، كما قرر اﻻتحاد بالأمس وبالتزامن مع رد بوريل على سؤال حول اﻻتفاق النووي الإيراني ومصيره، بأنه ﻻ يتوقع أي تحرك ... ما يعني في اللغة الديبلوماسية انسداد أفق المحاوﻻت التي سعت لإحياء اﻻتفاق وكونه لم يعد متصدّراً الأولويات الغربية، خاصة في ظل ما نقلته واشنطن بوست مؤخراً عن أن واشنطن نفسها لم تعد مكترثة كثيراً للاتفاق النووي مع طهران ..ما يحصل اذاً في الجانب الإيراني يدعو الى اﻻستنتاج بأن طهران قرّرت الدفاع عن وجود نظامها ومقايضة وجوده بتبنّي أجندات الغرب وصوﻻً الى التطبيع مع إسرائيل ودعم روسيا في نفس الوقت للضغط على الأميركيين عبر أوكرانيا وإقليم كردستان.
من الناحية الجيو سياسية، التصعيد الإيراني جعل الغرب يركّز على التظاهرات الحاصلة في إيران بدل التركيز كما كان معروفاً على اﻻتفاق النووي الإيراني، وجعل النظام الإيراني يوماً بعد يوم، وفي ظل تفاقم التظاهرات في البلاد، يفكر في استمراريته أوﻻً ويعمل على هذه الأولوية، خاصة وأن الهالة الدينية التي كان يتمتع بها سقطت وبات الشعب الإيراني منقسماً بين مَن يريد تغيير النظام أو تغيير في النظام وبين مَن ﻻ يريد أي تغيير، الأمر الذي ينذر اذا ما تفاقم بحرب أهلية تسقط نهائياً نظام الملالي وتفتح الباب أمام تدخّل دولي معين.نقطتا الضعف والقوة في تظاهرات إيران أنها تسير تحت قيادة معلنة، إذ من جهة يترتب على اﻻنتفاضة أو الثورة الشعبية كي تتوصل الى غاياتها ضد نظام الملالي أن تنتظم في ظل قيادة ثورية تجمعها وتنسقها وتوسعها وتطرح مشروعاً وطنياً مضاداً لنظام الثورة الخمينية، ومن جهة ثانية نقطة قوة أن التظاهرات مشتتة في الأقاليم والمناطق ما يشتت قوة السلطة على قمعها ومنعها ويضعف القدرات الأمنية الإيرانية، ما يؤدي الى ازدياد العنف في التصدي للمتظاهرين ويوقع مئات القتلى.التظاهرات واﻻنتفاضة الحالية تختلف على ما يبدو عن سابقاتها التي كانت تُقمع بعنف لأنها كانت تُحصر في بعض المناطق والأزقة بينما تظاهرات واحتجاجات هذه المرة تشمل كل البلاد وتسقط كل المحرمات وتستمر في الزمن ونحن في الأسبوع الخامس الذي يكاد ينتهي على اندﻻعها. التظاهرات الحالية اذاً هي نتيجة تراكمات وانعكاسات لأحزان طويلة الأمد في المجتمع الإيراني، ومن الواضح جداً أن حكومة طهران غير قادرة على كبح مثل هذا اﻻضطراب في البلاد.إيران أمام أزمة كبيرة جداً هذه المرة خاصة وأنها تأتي على خلفية فشل المفاوضات النووية أو أقله توقفها وتأجيلها الى أمد بعيد، كما وعلى خلفية تورط إيران في حرب أوكرانيا، وخلفية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وبالتالي نحن أمام فترة انعدام استقرار داخلي في إيران قد يترافق مع انعدام استقرار إقليمي.
النظام الإيراني قد يجد نفسه أمام حائط مسدود يضطره، وفي مقابل استعادة هيبته وإطالة عمره، الى التنازل عن بعض السياسات والتشريعات لنيل رضى المتظاهرين، ومن أهم هذه التنازﻻت قد يكون تنازل المرشد خامنئي عن مركزه نظراً لوضعه الصحي وسنّه.
في هذه الحالة، ستُطرح إشكالية كيفية انتقال السلطة من مرشد الى آخر لاسيما وأن القيادة الإيرانية ومرجعيات النظام منقسمة حول الخلف وكيفية انتخابه، الأمر الذي قد يزيد من منسوب عدم اﻻستقرار الداخلي.طهران ومنذ اللحظة الأولى ﻻندلاع التظاهرات واﻻحتجاجات إتهمت أطراف معارضة للنظام الموجودة في إقليم كردستان بالتدخّل في اﻻضطرابات، ما برر للإيرانيين البدء بعملية عسكرية على إقليم كردستان توقفت منذ أيام ولكن من دون أن يعني ذلك عدم احتمال العودة الى اﻻعتداءات، بل فقط من أجل إعطاء الفرصة لسلطات الإقليم للمساعدة على التخلص من المعارضين للخامنئي .
عدوى اﻻضطرابات في إيران والمتوقعة في المنطقة ترسم أكثر من سيناريو حول التداعيات الممكنة في حال انتقلت عبر الحدود في ظل قلق عدد من البلدات مما يجري في إيران واحتماﻻت زعزعة الاستقرار في بلدان أخرى.في الشهر الماضي، شنّ الحرس الثوري بعض الهجمات مستهدفاً بعض المناطق في الشمال العراقي في كردستان في محاولة من النظام في طهران لتحريف الأنظار عما يجري في الداخل باتجاه الخارج الإيراني.
القلق الحالي في المنطقة يتمحور حول سؤال عما يمكن للنظام الإيراني أن يفعله أكثر، خاصة اذا ما ازدادت الأزمة الإيرانية الداخلية سوءاً بحيث يمكن لطهران أن تصعّد في ردودها الخارجية ضد بلدان أخرى في المنطقة.أزمة الطاقة تقض مضاجع الغرب والقوى الكبرى في العالم، وبالتالي ﻻ يمكنها تحمّل أي خطر على مصادر تلك الطاقة وﻻ سيما في إقليم كردستان الغنية بإنتاج الطاقة، فمن هنا نرى إمكانية اعلان أجواء الإقليم منطقة حظر جوي لكبح جماح أي اعتداء، سواء جاء من إيران أو من تركيا ضد الإقليم المذكور.الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته يركزان على الحرب في أوكرانيا ورغبة واشنطن في مواجهة روسيا في ظل حرب أوكرانيا، ما يعني أن إدارة بايدن لن تستثمر طاقتها ورصيدها لطلب فرض منطقة حظر جوي لطيران شمال العراق، فالرئيس بايدن وفريقه تعلموا درساً من العدوان على العراق العام ٢٠٠٣ وتمت الإستفادة منه كدرس لتجنّب أي استنزاف مكلف كما كان الحال في حينه، لاسيما وأن التصرفات السابقة لم تحل مشكلان الوﻻيات المتحدة ﻻ بل تعقّدت ... فهل يمكن لإدارة بايدن أن تسلك نفس الطريق خاصة في ظل التوتر الدولي الحالي والحديث عن سلاح نووي يمكن أن يستخدم بين يوم وآخر؟إيران قلقة من إمكانية تغيّر الكونغرس الأميركي في اﻻنتخابات النصفية بعد أيام حيث عندها ستفقد طهران أي أمل بأي تقرّب أو اتفاق مع الغرب، فإذا سيطر الجمهوريون على الكونغرس سيضغطون على بايدن لتشديد السياسات تجاه طهران، ما سيضع نظام طهران أمام تحديات مصيرية ليس أقلها دعم الجمهوريين للمتظاهرين والمنتفضين وحمل الرئيس بايدن على مزيد من التشدد تجاه طهران رغبة منهم في ابتزاز النظام المتهاوي.
ثمة احتمال أيضاً يجب أن ﻻ يغيب عن بال أحد وهو أن يُحدِث النظام الإيراني الذي يرى نفسه محاصراً داخلياً وخارجياً ما يمكن تسميته تراجعاً عن شروطه في الموضوع النووي ﻻنعاش اتفاق ما، خاصة وأنه بحاجة للخروج من عزلته من جهة، والى التمويل أي استعادة أمواله من جهة أخرى، ما قد يضطره الى تليين مواقفه من مفاوضات النووي وورقة الأوروبيين والعودة الى طاولة التفاوض.
الواشنطن بوست نشرت من جهة أخرى تقريراً استخبارياً خطيراً جداً ينم، اذا صحّت معطياته، عن مدى اﻻنزﻻق الإيراني المتصاعد في المنطقة والحرب في أوكرانيا، اذ أشار هذا التقرير الى أن إيران تخطط لإرسال صواريخ باليستية من نوع فاتح ١١٠ وذو الفقار الى روسيا في حربها ضد أوكرانيا يصل مداها من ٣٠٠ الى ٧٠٠ كيلومترا وطهران حالياً تزود الروس بالمسيّرات.هذا النمط الإيراني في تزويد روسيا بالسلاح ﻻ يشجع الأميركيين والغرب على العودة لأي اتفاق نووي إذ أن مثل هذا اﻻتفاق سوف يزيد قدرات إيران على تمويل تسلّحها وتصديره الى أعداء الغرب وحالياً بالتحديد روسيا.مع اندﻻع الحرب في أوكرانيا، قامت روسيا باقتحام الأراضي الأوكرانية وصرحت طهران بأنها تريد أن تبقى شريكاً لروسيا لكن من دون التورط بالضرورة في النزاع الأوكراني، اﻻ أن هذا الموقف تغيّر مع تزويد روسيا بالمسيّرات، واحتمال إرسال صواريخ باليستية الى روسيا لاستخدامها في ضرب أوكرانيا واتهام كييف طهران باﻻصطفاف مع الروس ضدها.اذاً نحن أمام انزﻻقات إيرانية خطيرة : وزارة الدفاع الأوكرانية تصف روسيا وإيران بدولتين مارقتين وحدتا قواهما لتحسين تكتيكات إرهاب طائرات شاهد ١٣٦ الإيرانية ونظام طهران يهدد إربيل وكردستان والخليج وبخاصة المملكة العربية السعودية ... كما جاء على لسان قائد الحرس الثوري حسان سلامة، وقد وجّه تحذيراً واضحاً للمملكة العربية السعودية.
نظام الملالي في ورطة وهو محاصر ولذلك هو خطير وسيزداد خطورة مع الأيام المقبلة، فهل دخلنا مرحلة امتداد الصراع الدولي الى المنطقة مع ما يعنيه ذلك من خلط أوراق كبير يفرز جبهات متقابلة وحسابات متضاربة؟