أمام استمرار الاحتجاجات الشعبية الصاخبة في إيران وتصاعدها يوماً بعد يوم على نحو غير مسبوق منذ قيام الجمهورية الإسلامية وتوطيد الملالي لحكمه، يتذكر الجميع كيف واجهت إيران احتجاجات شعبية عدة خلال السنوات الماضية، لكن نظامها السلطوي استطاع تهدئة الشارع واحتواء تلك الحركات التي لم تتمكن من الإطاحة بنظام ولاية الفقيه في حينه، لكن اليوم ومع دخول الانتفاضة شهرها الثاني، وعلى الرغم من سقوط مئات القتلى واعتقال أكثر من 12 ألف شخص الى الآن بحسب المصادر المتوافرة، فشلت قوات المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي في قمع التمرّد الحالي الذي دخل أسبوعه السابع، وفق تقرير جديد لمجلة "الإيكونوميست ".
وبحسب المجلة، قال أحد المتظاهرين في إحدى جامعات طهران: "لم نعد حركةً، نحن ثورة تلد أمة"، ما يعني أن هذه الاحتجاجات في إيران "مختلفة" تماماً عن الحركات السابقة، إذ لم يعد المتظاهرون يطالبون بإصلاح سياسي داخل النظام، لكنهم يريدون و بكل بساطة ومباشرة الإطاحة بالنظام الديني القائم.والملاحظ هذه المرة أن الغضب الشعبي استمر لفترة أطول من ذي قبل، وانتشر إلى ما وراء الطبقة الوسطى واجتاح الطوائف والأعراق المختلفة والمناطق وقد سُمع الهتاف : "من زاهدان إلى كردستان، أضحي بحياتي من أجل إيران"، هتافات تعلو في جميع أنحاء البلاد، في إشارة إلى المدينة التي تقع بالقرب من الحدود الشرقية مع باكستان والتي شهدت يوماً دموياً سقط خلاله عشرات القتلى أثناء صلاة الجمعة قبل أيام، ومقاطعة إيرانية في الغرب، كما سُجّل انخراط مشاهير وأبطال رياضيين ونجوم سينما من الذين يتقاضون رواتب حكومية في مواقف مؤيدة للمتظاهرين. وما يحصل بالتوازي أنه ولأول مرة في الشرق الأوسط، تقود النساء احتجاجات اعتراضاً على ولاية الرجال عليهم سواء في طريقة لباسهم والسفر وحتى العمل وممارسة حياتهم اليومية.
والمعلوم أن الشابة مهسا أميني، وهي إيرانية من أصل كردي، كانت قد توفيت في 16 أيلول الفائت بعد ثلاثة أيام على توقيفها من قبل "شرطة الأخلاق" أثناء زيارة لها إلى طهران مع شقيقها الأصغر، لانتهاكها قواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.
ومنذ إعلان وفاتها، والانتفاضة الشعبية مندلعة على وتيرة متمادية ومتّسعة، وقد خرجت احتجاجات غير مسبوقة في إيران منذ ثلاث سنوات، لا تزال مستمرة في مختلف أنحاء البلاد، تتقدمها في معظم الأحيان شابات وطالبات، كثيرات منهن يقمن بإحراق أغطية رؤوسهن تعبيراً عن رفضهن الحكم الديني الصارم.
هذا وقد لوحظ هذه المرة سقوط حاجز الخوف لدى الشعوب الإيرانية، اذ وبعد ستة أسابيع، بدأت تتراجع مظاهر تطبيق القواعد الإسلامية في إيران، حيث لوحظ أن نساءً يمشين في الشوارع من دون حجاب، فيما تعانق بعض أخريات الذكور الغرباء في العلن.ويقول نجم كرة القدم الإيراني علي كريمي، الذي فرّ إلى الإمارات العربية وبرز كمتحدثٍ رسمي في المنفى، إن "مستقبل إيران أمرأة".
أما على الصعيد الميداني، فإن تدخّل الحرس الثوري الإيراني مباشرةً في قمع الانتفاضات المندلعة دليل على مدى شعور الحكام باهتزازات خطيرة لأسس حكمهم، خاصة وأن الحرس الثوري يُعتبر آخر معاقل مظهر السلطة العليا والمسيطرة على البلاد، وهي لا تدخر أي تصرف دموي وتعسفي لإخماد الحريق المندلع في الداخل الإيراني.والأبهى أنه وعلى الرغم من تدخّل الحرس الثوري، لا زال المتظاهرون والمحتجون مستمرين في حركتهم لا بل انتفاضتهم، بما يعني أيضاً سقوط حاجز الإرهاب والترهيب والخوف ووجود قرار شعبي واضح بقبول كل التضحيات حتى الموت من أجل إسقاط النظام.
ومن حرق اللوحات الإعلانية التي تحمل صور المرشد الأعلى، الى تمزيق لافتات مراكز شرطة الأخلاق، وصولاً الى الهتاف بـ "الموت للدكتاتور" وتركّز بعض أكبر الاحتجاجات في مدن محافظة تضم أضرحة مقدسة مثل مشهد وقم، بالإضافة إلى تحركات داخل جامعات نسائية مثل الزهراء في طهران، كلها ظواهر تعني الكثير الكثير والأهم أن ثورة الأحفاد عام 2022 بدأت تأكل ثورة الأجداد عام 1979.
هذه الانتفاضة تستطيع إسقاط النظام بشرطين : أن يكون لها مشروع وطني إنقاذي بديل للحكم الديني الحالي ما يعني بروز قيادة ثورية ولو في المنفى تدير وتقود وتنسق التحركات الشعبية، ورأي عام وحكومي دولي داعم.الى الآن، من الواضح أن الطريق لا يزال طويلاً أمام المتظاهرين لإسقاط النظام، خاصة وأن دول المنظومة الديمقراطية الليبرالية المتحكّمة بالقرار الدولي من واشنطن الى بعض العواصم الأوروبية لا تزال بحاجة للحكم الإسلامي في إيران، وهي أي تلك الدول وإن سمحت لرعايا إيران في عواصمها ومدنها بالتظاهر والتضامن مع الشعب الإيراني الثائر في الداخل الإيراني، إلا أن ما يُمرّر من تحت الطاولة أهم وأخطر بكثير مما يُعرض على سطحها.في المقابل، يجب أن لا يغيب عن بالنا أمر أساسي هو أن الحاجة الغربية الى إيران بدأت تتضاءل رويداً رويداً بفعل عوامل عدة ليس أقلها مفاعيل التورط الإيراني في حرب أوكرانيا وتداعياته، واصطفاف الإيرانيين الى جانب روسيا في منازلة الأوروبيين والأميركيين بمسيّراتهم وربما قريباً بصواريخهم الباليستية، إضافة الى تعثّر الاتفاق النووي ومضي إيران قدماً في برنامجها النووي من دون قيود، كما توجّه الأولويات الغربية حالياً الى شؤون الطاقة والعودة الى دول الخليج، ما يجعل الورقة الإيرانية مع الوقت أداة ثانوية في إدارة شؤون المنطقة، وقد بات الغرب بحاجة الى العرب أكثر من حاجته الى إيران مع ما يعنيه ذلك من انقلاب في أولوياته وإعادة خلط الأوراق الناجم عن ذلك التبدّل.طهران اذاً اليوم في ورطة كبيرة، سواء في الداخل أو في الخارج، وإزاء هذه الورطة تصبح كل الخيارات أمام القيادة الإيرانية مفتوحةً بما فيها الانفتاح على إسرائيل للضغط الذي يجمعها بها عدم السماح للعرب والخليجيين بأن يقووا كثيراُ ويعودوا مصدر التجاذبات الإقليمية والجذب الدولي، ومن هنا على سبيل المثال اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بمباركة إيرانية - حزب اللهية، تمهيداً لتطبيع بل تحالف إيراني - شيعي - إسرائيلي في مرحلة مقبلة اذا قوي العرب وقويت مجدداً شوكتهم.
وفي الختام تذكير : أكبر المظاهرات بلغت عشرات الآلاف ولم يكن العدد بالملايين عندما أُطيح بنظام الشاه رضا بهلوي عام 1979، فيما حالياً قد يُضعف الجدل بشأن خلافة المرشد الأعلى النظام من الداخل، فيما الحرس الثوري الإيراني يشهد تحوّلاً في الأرض وهو يتراجع، فأصحاب الرتب الأدنى يتعاطفون مع المحتجين، والحرس الثوري ليس متجانساً بأي حال من الأحوال، حيث أن كثراً من كبار مسؤوليه يندفعون للمال أكثر من الدين،فخامنئي والنظام الإسلامي يواجهان مشكلات أعمق من أي وقت مضى منذ الإطاحة بالشاه عام 1979،فهل نكون فعلاً أمام بداية نهاية النظام الإسلامي في الأفق؟ الإجابة : نعم بالتأكيد.