الدستور هو القانون الأعلى الذي يأتي في قمة الهرم القانوني، في الدول الدستورية، والذي تنتظم بموجبه القواعد القانونية التي تحكم أعمال الدولة. ولم يخرج الدستور اللبناني عن الأصول التي ترعى وضع الدساتير وتعديلاتها، وكأي دستور يعلو على كل القواعد القانونية، فإن تطبيقه، يكون ملزماً لكل المؤسسات الدستورية، ويجب التقيد في تطبيق أحكامه بالأصول التي تحكم تطبيق النصوص القانونية، وأساسها أن لا اجتهاد في معرض النص، عندما يكون النص واضحاً وصريحاً، وعدم التوسع في تفسير نصوصه، وان يأتي تفسير النصوص، عند غموضها، بالمعنى الذي يحدث معه أثراً يكون متوافقاً مع الغرض منه ومؤمنا التناسق بينه وبين النصوص الأخرى.في ضوء ما تقدم، وبالعودة إلى أحكام الدستور اللبناني، فقد نصت المادة 69 منه على:«تعتبر الحكومة مستقيلة في الحالات التالية:
أ- اذا استقال رئيسها
ب- اذا فقدت أكثر من ثلث عدد أعضائها المحدد في مرسوم تشكيلها.
ج- بوفاة رئيسها.
د- عند بدء ولاية رئيس الجمهورية
هـ-عند بدء ولاية مجلس النواب
و- عند نزع الثقة منها من قبل المجلس النيابي بمبادرة منه او بناءً على طرحها الثقة.
وفي حال تحقق اي من هذ الحالات، وبالتالي الحالة التي شهدتها البلاد مؤخراً، في الانتخابات النيابية التي جرت في الخامس عشر من شهر ايار 2022، أي مع بداية ولاية مجلس النواب، اصبحت الحكومة حكومة تصريف أعمال، وتمارس صلاحياتها، بالتالي، استناداً الى المادة 64 فقرة 2 من الدستور بالمعنى الضيق لتصريف الاعمال.ولكن الدستور اللبناني، كما غيره من الدساتير، لم يحدد المهام او الصلاحيات التي يمكن ان تتولاها حكومة تصريف الاعمال لانها مسألة عارضة ومؤقتة واستثنائية، ويجب ان تبقى كذلك ويتم التعامل معها على هذا الاساس تمهيداً للعودة سريعاً الى الاصل اي الى الحالة الطبيعية.
ونظرية تصريف الاعمال هي نظرية اجتهادية من صنع القضاء الاداري، ولا تتطرق اليها الدساتير عامة، الا ان الدستور اللبناني، بعد التعديلات التي ادخلت عليه بموجب اتفاق الطائف، اراد ان يقونن هذه النظرية. فتشدد في مفهوم هذه النظرية، وحصر ممارسة حكومة تصريف الاعمال لصلاحياتها بالمعنى الضيق لتصريف الاعمال، وذلك تأكيداً منه على أمرين أساسيين، حصر ممارسة حكومة تصريف الاعمال في أضيق نطاق ممكن، أولاً. والاسراع في تشكيل حكومة تضطلع بمسؤولياتها الدستورية وتكون مسؤولة امام البرلمان، لتفادي ما يمكن ان ينتج من اضرار ومخاطر في مصالح البلاد العليا، اذا ما طال أمد تشكيل الحكومة، ثانياً.
اما عن الصلاحيات التي تتمتع بها حكومة تصريف الاعمال، فتحكمها قاعدتان، "مبدأ عدم مسؤولية الحكومة امام مجلس النواب"، و"مبدأ عدم جواز فراغ العمل الحكومي"، وبالتالي استمرارية عمل المؤسسات الدستورية والمرافق العامة.وأما عن المبدأ الاول، فإن مسؤولية الحكومة، في نظامنا البرلماني، تقضي بأن تمارس مهامها وهي حائزة على ثقة مجلس النواب ترتبط بثقته، فاذا ما قدمت الحكومة استقالتها او اعتبرت مستقيلة، وفقاً لأحكام المادة 69 من الدستور، فإن ذلك يفقدها كيانها القانوني الذي يخولها ممارسة شؤون الحكم، وتصبح من ثم غير مسؤولة امام مجلس النواب، وغير ذات صفة لتمثل امامه.
ويأتي المبدأ الثاني ليغطي فراغ الحكم الذي يسبق تشكيل الحكومة الجديدة، لأن من شأن هذا الفراغ ان يؤدي الى تعطيل اعمال السلطة التنفيذية، وشل العمل في مصالح الدولة ومرافقها وتعريض حقوق ومصالح المواطنين للضرر، فضلاً عن تعريض البلاد لشتى المخاطر، وتجنباً لهذه المخاطر والمحاذير، جرى العرف الدستوري، واستناداً إلى مبدأ وجوب استمرارية المرافق العامة على استمرار الحكومة بممارسة أعمالها ومهامها بحيث يحدد نطاق أعمالها بما سمي بتصريف الأعمال العادية.وعلى هذا الأساس حصر الاجتهاد القضائي الأعمال العادية بالأعمال اليومية وتيسير معاملات المواطنين وتأمين مصالحهم، في حين منع عليها القيام بأعمال تصرفية كتلك التي ترمي إلى إحداث أعباء جديدة أو التصرف باعتمادات هامة أو إدخال تغيير جوهري على سير المصالح العامة وفي أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.إلا أن الاجتهاد استثنى من ذلك التدابير التي تتخذ في حالة الضرورة أو التي تستدعيها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام أو بمصالح البلاد العليا وأمنها الداخلي والخارجي، وكذلك الأعمال الإدارية التي يجب إجراؤها في مهل محددة بالقوانين تحت طائلة السقوط والإبطال، وذلك حفاظاً على سلامة الدولة وأمن المجتمع.
وربّ قائل كيف يجوز لحكومة تصريف اعمال ان تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية، على اهميتها وخطورتها، والجواب على ذلك يكون بالعودة الى اعمال نصوص الدستور، وفقاً للقواعد العامة في التفسير، التي تقضي بإعطاء النصوص القانونية مفاعيلها القانونية بما يجعلها مكملة لبعضها البعض.بالتالي، فإنه يعود للحكومة بل ينبغي عليها ان تستمر بممارسة اعمالها، استناداً الى نص الدستور، ووفقاً للمادة 64 فقرة 2، وبالمعنى الضيق لتصريف الاعمال، بما في ذلك المهام المناطة دستورياً برئيس الجمهورية، كما لو كانت حكومة تعمل دون شغور منصب رئاسة الجمهورية. وفي هذه الحالة يمارس مجلس الوزراء صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة ووفقاً لنظامه، أي وفقاً للنظام المتّبع في جلسات مجلس الوزراء، او في طريقة التصويت على القرارات، او في التوقيع عليها، تطبيقاً لما نصّت عليه المادة 65 من الدستور، لأن الحكم الذي يسري عليها، في الحالتين، حالة الشغور في منصب الرئاسة الاولى، او وجود حكومة تصريف اعمال، هو مبدأ استمرارية عمل السلطات والمرافق العامة الذي رفعه المجلس الدستوري في فرنسا، ومن ثم في لبنان الى مرتبة المبدأ الذي يتمتع بقيمة دستورية، وجاءت الاعراف والسوابق الدستورية في لبنان، لتؤكد على المنحى الذي سار عليه الفقه والاجتهاد.
وفي هذا السياق، لا بُدّ من احترام بعض "الضوابط" عند تطبيق نص المادة 62 من الدستور.فقد حدّد المشرّع الدستوري آليةً في إناطة صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء، لا يجوز تجاوزها، وهي الوكالة، تأكيداً منه على أن ممارسة الصلاحيات الرئاسيّة لا يجب أن تخرج عن مسألتين:
أولاً، وإن لم يُحدَّد نطاق نظرية الوكالة في القانون العام خلافاً للقانون الخاص، إلا أنها، بحسب روحية ومضمون قرارات المجلس الدستوري الفرنسي واللبناني، حالة مؤقتة واستثنائية تهدف إلى تأمين استمرارية المرافق العامة، وبالتالي فإنّ ممارسة الوكيل لصلاحيات الأصيل يجب أن تكون محصورة ومقيّدة بالهدف الذي من أجله أُعطيت الوكالة، وهو استمرارية السلطات الدستوريّة منعاً لحدوث أيّ فراغ فيها، بما لا يُجيز - بذريعة الفراغ - التعامل مع الواقع الدستوري الجديد وكأنّ شيئاً لم يحدث على الإطلاق، وتصدر الحكومة، على إثره، قرارات تخرج عن نطاق تسيير شؤون المرافق العامة.وعليه، و تطبيقاً للحالة الاستثنائية وإنفاذاً لسائر مواد الدستور اللبناني، فليس بمقدور مجلس الوزراء، خلال فترة الشغور الرئاسي، ممارسة كلّ صلاحيات رئيس الجمهورية، ذلك أن بعضها يُستمد من ذاتيته كطلب إعادة النظر في قرارات اتخذها مجلس الوزراء وفق المادة 56، على اعتبار أن هناك استحالة في أن يرّد مجلس الوزراء قراراً اتخذه بنفسه.
والبعض الآخر يُستمد من موقعه في نصوص الدستور، وتحديداً في المادة 50 من الدستور الّتي تُوجب الإدلاء باليمين الدستورية من أجل ممارسة رئيس الجمهورية لصلاحياته، وهو التزامُ لم يخضع له الوزراء عند إتمام عملية انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية. ويدعو، في الوقت نفسه، إلى تقييد صلاحيات مجلس الوزراء، فلا يمكن اعتبار «اليمين» إجراءً شكلياً لا يُحاكم عليه، ولو كان الأمر على خلاف ذلك، لما كان رئيس الجمهورية يُحاسب بتهمة خرق الدستور أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء.
وسنداً لهذا المنحى، لا تستطيع الحكومة، خلال الشغور الرئاسي، اتخاذ مقررات رئيس الجمهورية التي يشترك معه في التوقيع عليها رئيس الحكومة والوزير المختص وفق المادة 54 من الدستور إلا إذا كانت تطبيقاً لقرار صادر عن مجلس الوزراء، منعاً للالتفاف على المواد 17 و62 و65 من الدستور، فهي مقررات تُستمد من موقع وذاتية الرئيس.كما لا يمكن لمجلس الوزراء، بذريعة تطبيق المادة 62 من الدستور، التنصّل من المسؤوليات المُلقاة على عاتقه، إذ إن المادة 60 تنصّ على أن «لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى»، ولا يجوز للوزراء أن يستفيدوا من هذا الامتياز الحصري للرئيس. فمساءلة الرئيس عند مخالفة الدستور تأتي، مبدئياً، بتجاوز الأصول أو المهل الدستورية المحددة له، في حين أن الوزراء يُحاكمون عند إخلالهم بالوظيفة أو الواجبات المترتبة عليهم، وإلّا تُعطل أحكام المادة 70، إلى جانب المواد 73 و74 و75، وهو تعطيلٌ يهدم المؤسسات الدستورية والهرمية الحقوقية.وعليه، فإن الشروع في انتخاب رئيس الجمهورية ضمن المهلة الدستورية إعمالاً لنص المادة 73 من الدستور، ودون تأخير، ومنعاً لحصول أي شغور في منصب الرئاسة، يشكل أولوية على أي عمل آخر. لإن خلو سدة الرئاسة بسبب عدم انتخاب الرئيس ضمن المهلة الدستورية، أو لأي سبب آخر، يضع بين يدي المجلس النيابي صلاحية وواجب ملء هذا الشغور فورا وبحكم الدستور.
أما بالنسبة للحكومة، فلا يتأثر هذا الانتخاب بالوضعية القانونية للحكومة القائمة، سواء كانت مكتملة الكيان القانوني والدستوري وحائزة على ثقة مجلس النواب، أو كانت حكومة مستقيلة أو معتبرة مستقيلة، أي حكومة تصريف الأعمال.إذ تبقى الحكومة قائمة بتصريف الأعمال إن كانت مستقيلة أو معتبرة كذلك، وتمارس صلاحياتها بالحد الأدنى لتصريف الأعمال، بما في ذلك ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة، وفي إطار ونطاق مفهوم ومضمون تصريف الأعمال.كما أن شغور منصب رئاسة الدولة، أثناء قيام الحكومة بتصريف الأعمال لا يغير من طبيعتها القانونية ولا من مهامها، لأن انتخاب رئيس الجمهورية وبدء ولايته، يجعلان الحكومة، فيما لو كان كيانها القانوني والدستوري مكتملاً، حكومة مستقيلة حكماً، بما يحولها إلى حكومة تصريف أعمال.
بناءً عليه، يبدو بأن المشرّع الدستوري لم يُغلق الباب أمام تعطيل الاستحقاقات الدستوريّة، إلا أنّه لا يجوز أن تبقى الحلول المؤقتة شمّاعة لإسقاط الواجبات الكبرى المُلقاة على المؤسسات الدستوريّة، لأنها وُضعت لفترة قصيرة لم يكن المشرّع يتوقّع إطالتها، وذلك احتراماً لما تبقّى من خصوصية للكيان اللبناني، وفي ظرفٍ استثنائي يقتضي أن تتداعى كلّ الجهود من أجل تفعيل الدولة لا تهشيمها وتعطيلها بالاعتكاف عن واجب تشكيل الحكومة، وتالياً انتخاب رئيس الجمهورية.
*باحث قانوني وسياسي