من المعروف تاريخياً أن الإيرانيين يكرهون الروس الذين لهم تاريخ عدائي قديم مع إيران من أيام العصور الملكية، وأن ما بينهم وبين إيران في العمق، تنافس وعداء، ولكن كل طرف يكذب على الآخر، وقد بلغ الأمر في وزارة التعليم الإيرانية حدّ الحذف من المقررات الدراسية أي إشارة سلبية ضد الاتحاد السوفياتي والحروب الروسية منذ فترة.
والمعروف أن الرئيس فلاديمير بوتين ينظر الى إيران نظرة مصلحية، لا قناعة بالنظام الديني فيها والذي يأتي على نقيض النظام المسيحي الأورثوذكسي في موسكو ودول المنظومة السوفياتية السابقة، إنما بحكم الحاجة والضرورة، فهو يتقرّب ويتحالف مع إيران خاصة مع تطور الوضع الميداني والسياسي في الحرب على أوكرانيا، ما فرض عليه إعادة حسابات معينة بنسج تحالفات خارجية أولها مع الإيرانيين مستفيداً من تلاقي المصالح.وانطلاقاً من هذه الحقائق، نجد حالياً أن طهران تنخرط في حرب أوكرانيا الى جانب الروس انطلاقاً من مصالح متبادلة على قاعدة أن "المصيبة تجمع بينهما"، لا بل العداء للغرب هو الجامع فعلياً.ومع قيام نظام آية الله الخميني إثر الثورة الشعبية عام 1979 وسقوط حكم الشاه، تبدّلت قواعد اللعبة في المنطقة على وقع اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، فأرست للجمهورية الإسلامية الثورية قواعد إقليمية تمكّنت من خلالها طهران من السيطرة على دول عربية عدة انطلاقاً من مبدأ تصدير الثورة.حينها طُرحت في الغرب إشكاليتان : منع التقرّب السوفياتي الصاعد بقوة وسرعة من الخليج، وفي الوقت عينه عدم السماح للشاه يالاستمرار لأنه كان أقوى من مبررات القبول به غربياً وتحديداً أميركياً،فجاء خيار الغرب بدعم الخميني والثورة الإسلامية لتأمين انحسار التأثير السوفياتي من جهة، ولمنع إيران الأمبراطورية البهلوية ( نسبة لأسرة الشاه ) من التحكّم بمنطقة الخليج الغنية بالنفط والموارد الطبيعية.نقول هذا الكلام لإرساء الخلفية الجيو سياسية للتحالف الإيراني- الروسي الحالي المبني على تناقضات استجابةً لمتطلبات المصالح الغربية، وصولاً الى عبثية حرب الرئيس الروسي بوتين في أوكرانيا.والمستغرب في التقارب الحالي كيف أن إيران الإسلامية تتقرب من روسيا المسيحية تماماً كما كان مطروحاً في السبعينيات حيث التقارب الإيراني- الاسلامي مع الاتحاد السوفياتي الملحد آنذاك.
حالياً انخرطت إيران في الحرب في أوكرانيا الى جانب روسيا، وباتت طهران الحليفة الأولى والفعلية لموسكو في حربها في أوروبا، وصواريخ ومسيّرات طهران تضرب العمق الأوروبي عبر الأراضي الأوكرانية، ما يحتّم طرح السؤال : هل تتحكم طهران بانخراطها الى جانب الروس أم أن ثمة امر واقع حدا بها الى الانخراط؟في الواقع، طهران لم تكن لتنخرط في حرب أوكرانيا الى جانب موسكو لولا تحقق الاتفاق النووي أولاً، ولولا عدم وجود إشارات استمرار التطبيع الإسرائيلي- العربي، عدم وجود واقع عربي- خليجي صلب في مواجهتها، وهي كلها حسابات جعلت القيادة الدينية في طهران تنظر بالأولوية الى مقتضيات تأمين استمرار نظامها، خاصة بعدما تخلخلت ركائز الثورة الإسلامية مع اندلاع الانتفاضة الشعبية منذ ما يزيد على تسعة أسابيع .فأولوية الاحتفاظ بالسلطة وعدم السقوط أملت على نظام الملالي حساباته الحالية إقليمياً ودولياً خاصة بعدما سقط حزام الأمان الغربي في منصة فيينا وتوقف المفاوضات النووية ووصول نتانياهو الى السلطة في إسرائيل مجدداً وسيطرة الجمهوريين على مجلس النواب الأميركي في الانتخابات النصفية التي حصلت مؤخراً بما ينذر بإمكانية عودة الجناح الجمهوري الراديكالي الى السلطة عام 2024 .
ومَن يعرف الرئيس بوتين جيداً يعرف أن الرجل ليس من القادة الذين يمكن تطويعهم والسيطرة عليهم، هو الذي يعتبر نفسه أمبراطوراً يسعى الى إعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي السابق، والذي اعتبر سقوطه أكبر كارثة جيو سياسية في القرن العشرين، وبالتالي من الصعب على المرشد الأعلى علي خامنئي وأركان نظام الملالي إملاء سياساتهم على بوتين، ما يعني أن استمرار التحالف الإيراني- الروسي في أوكرانيا منوط بمدى حاجة بوتين الى الإيرانيين لا حاجة الإيرانيين الى بوتين، خاصة وأن نظام طهران متهالك وضعيف داخلياً وخارجياً، وبالتالي ليس أمامه خيارات سوى الخضوع لحليفه الروسي المستجد.مرسوم الرئيس بوتين الأخير بقبول انخراط مقاتلين أجانب في عِداد الجيش الروسي فتح الباب أمام انخراط مقاتلي الميليشيات الإيرانية في الحرب ضد أوكرانيا والغرب، وعزّز من تورّط الإيرانيين في تزويد وربما الإشراف على استخدام المسيّرات والصواريخ لصالح الروس ضد الأراضي الأوكرانية.تورط إيران بصواريخها وميليشياتها ومسيّراتها قطع أي إمكانية لحوار إيراني- غربي حول النووي و أفقدها أي إمكانية دعم كمَن يرمي "كل بيضه" في سلة بوتين الحليف الوحيد، وبالتالي أصبح نظام الملالي ورقةً بيد بوتين يستخدمها في تعزيز موقعه من الصراع ويجعل إيران أسيرة لمخططاته.
ارتمى الخامنئي في أحضان عدوه التاريخي في لحظة التخلّي الدولي والعزلة حتى من الصين التي فضلت الحياد حيال حرب أوكرانيا، كما فضلت مصالحها الاقتصادية حيال الغرب، وتجلى ذلك في ما سُرّب من لقاءات الزعيم الصيني مع قادة الدول في خلال قمة العشرين الأخيرة في بالي،وبالتالي أصبح مصير النظام في إيران مرتبط الى حد كبير بانتصار روسيا، عدوها التاريخي في حربها في أوكرانيا، وقد نجح الغرب في عزل مكوّنات المحور الصيني- الإيراني- الروسي الى الآن عن بعضها البعض من خلال الحوار مع الصين والمفاضلة الصينية بين الاقتصاد والحرب في اختيارها الاقتصاد.طهران فقدت حليفها الأقوى الصين، والروس فقدوا دعم حليفهم المباشر الصين، وبالتالي تفكك محور الممانعة للغرب في المنطقة ... وقد تقرّبت واشنطن من كاراكاس ونظام مادورو في إطار هذا المخطط التفكيكي للمحور، في الوقت الذي تشكّل فيه حلف قوي في آسيا الى جانب الأميركيين لتطويق كوريا الشمالية .إصطفاف إيران الى جانب الروس في حرب أوكرانيا يكشف بما لا يقبل أي شك تخبّط القيادة الإيرانية وحشرها في زاوية تصبح معها قادرة على فعل أي شيء من أجل ضمان استمرار نظامها.من هنا يأتي تفسير عملية الاعتداء بالأمس على ناقلة نفط في الخليج العُماني وقبل أيام تفجير تقسيم التركية عبر البي كي كي الذي يقبض رواتبه من الحشد الشعبي وزيارة قائد فيلق القدس إسماعيل قآني للعراق وتمويل فريق من القاعدة لاغتيال شخصيات إسرائيلية في جورجيا ...
وزارة الأمن الداخلي الأميركية اعتبرت حديثاً أن إمكانية إيران ضرب أمن الولايات المتحدة الأميركية بعمليات إرهابية قائمة تماماً كما كانت أفغانستان تشكل الخطر الأكبر على أمن الولايات المتحدة سابقاً والتي منها انبثق ١١ سيبتمبر( أيلول).وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو كان يقول أن أيران اليوم هي القاعدة المركزية للقاعدة وداعش وكافة التنظيمات الإرهابية، وهي التي ترعى التطرف الإسلامي السني والشيعي على السواء، ما يعني أن سلاح الإرهاب عبر إيران بات تحت يد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين،فهل يكون تقارب إيران مع روسيا بمثابة مَن يقترب من الشمس كي يحترق؟النظام الإيراني في حالة من ضيق الخيارات الاستراتيجية وقد يخسر كثيراً وأكثر بكثير مما خسره الى الآن من تحالفه مع النظام في موسكو، خاصة أن الرئيس بوتين لا يرى إلا مصلحته، وما قدّمه النظام في إيران لبوتين لم تقدّمه أي دولة الى الآن بما فيها طبعاً الصين.