المعادلة الثلاثية الشرقية وانقلاب المشهدية الإقليمية والدولية

thumbs_b_c_7b71e53841f911ac0b1aa26bd8970f5d

في خلال القمة الروسية - الصينية الافتراضية الأخيرة بين الرئيس فلاديمير بوتين والزعيم الصيني تش جينبينغ، أبلغ الأخير حرص بلاده على تقوية العلاقات الثنائية وتعزيزها في مختلف المجالات حتى السياسية والعسكرية، وقد كان لافتاً غياب أي إعلان من الطرف الصيني لدعمٍ ما للعملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، رغم الكلام العمومي الذي كانت تطلقه بيجين بين الحين والآخر دعماً لمطالب روسيا في أوكرانيا، ولكن على نحو متناقص يوماً بعد يوم.

هذا الموقف الصيني ليس بجديدٍ إذ ومنذ اليوم الأول لانطلاق ما يصرّ الرئيس بوتين على اعتباره عمليةً خاصة في أوكرانيا، لم تصطف بيجين بشكل كامل الى جانب الحليف الروسي وكما أنها تجنّبت الى الآن دعمه عسكرياً وحتى لوجستياً، وقد أدرك الرئيس الروسي تميّز الصين في موقفها في قمة سمرقند التي جمعته الى جانب الرئيس الصيني في شهر أيلول الماضي بحيث أن أبرز ما تضمنه البيان الختامي لم يكن ليرقى الى مستوى طموحات الرئيس بوتين، وقد تحدث البيان عن مكافحة الإرهاب والدعوة لنظام تجاري متعدّد الأطراف الى جانب قضايا لم يكن الموضوع الأوكراني والدعم الصيني للروس من بين أولويات القمة.

بالعودة الى الوراء، نستذكر كيف أن المحور الروسي- الإيراني - الصيني قد تشكّل منذ أحداث 11/9 واشتد عوده أثناء فترة الربيع العربي وتوقيع الاتفاق النووي عام 2015، وقد كان هذا المحور يجسّد لدى الكثيرين من زعماء ومسؤولي المنطقة التوجه شرقاً، الا أنه ومع انتهاء حقبة 11/9 وسقوط الربيع العربي وبروز قوة عربية إقليمية جديدة وفشل المفاوضات الإيرانية- الغربية حول اتفاق نووي جديد والانسحاب الأميركي العشوائي من أفغانستان واختلال الموازين في العراق، وصولاً الى اندلاع حرب أوكرانيا الروسية، ظروف طارئة قلبت المعادلات وأعادت الحسابات وخلطت الكثير من الأوراق الإقليمية والدولية.
والملاحظ في هذا السياق أن المحور الثلاثي الشرقي المُشار اليه أعلاه تزامن تفتته مع انتهاء دور الخمسة +1 في فيينا للمساعدة على إبرام اتفاق نووي مع إيران يفتح أسواق المال والاستثمارات باتجاهها ويكون ذلك برعاية صينية- روسية.
الاتفاق النووي عام 2015 انتهى في غياب أي اتفاق جديد مع إحالة إيران الى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
في العام 1979، تبدّل النظام في إيران بدعم إيراني- غربي وأُطيح بالشاه، واليوم يُفَجّر نظام الملالي من الداخل تمهيداً لتوقيع صك نهايته.
وفي خلال المرحلة السابقة التي كان فيها للمحور الثلاثي الشرقي دوره وتأثيراته، برز العديد من المتغيّرات الجيو سياسية حيث أن دولة قطر أرادت الخروج من مجلس التعاون الخليجي، فيما وزير الشؤون الخارجية السعودي فيصل بن فرحان يصرّح مؤخراً أن المملكة ستقدّم نسخة حديثة لتعاون دول مجلس التعاون بحسب رؤية الملك سلمان بن عبد العزيز، فمجلس التعاون يحاكي التغيرات الجيو سياسية المستجدة ويتجه بخطى ثابتة نحو قيادة عسكرية وأمنية خليجية موحّدة بالتزامن مع خروج المنطقة من المحور الروسي- الصيني- الإيراني.
من هنا كانت القمم التاريخية الأخيرة في الرياض بين كل من الزعيم الصيني الزائر للمملكة ودول مجلس التعاون والدول العربية الثلاث مصر والأردن والعراق، وكانت المواقف والاتفاقات والبيان الختامي الذي أظهر تناغماً صينياُ كبيراً مع وجهة النظر السعودية- الخليجية من التهديد الإيراني في المنطقة.

على صعيد العلاقات بين الصين وروسيا يمكن القول إن بيجين لم تعد ترى في روسيا دولةً مأمونةً سواء سياسياً أو اقتصادياً و حتى نفطياً، ومن هنا كانت استدارة الصين باتجاه المملكة العربية السعودية ودول الخليج.
هذه الاستدارة شكّلت ولا تزال قلقاً كبيراً لدى الجانب الإيراني، خاصة وأن الرياض نجحت الى حد كبير في " سعودة الصين " بالاتفاقات والاستثمارات الضخمة تجارياً ومالياً والتي وقّعت بين الطرفين وأعطت بيجين خطاً آمناً لتجارتها وصولاً الى أوروبا انطلاقاً من الخليج.
القلق الإيراني تجلى بالتصريحات وردود الفعل ولا سيما الدموية منها مع العملية الإرهابية التي استهدفت مقراً للبعثة الصينية في أفغانستان، والتي تناولناها في مقال سابق في حينه، بالإضافة الى مسارعة وزير خارجية النظام الإيراني عبد اللهيان الى الرد على البيان الصيني- السعودي - الخليجي المشترك حول جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى بالتشديد على كونها جزءاً لا يتجزأ من السيادة الإيرانية، مشيراً بحدة الى عدم مجاملة طهران أي كان من حيث احترام سيادة ووحدة الأراضي الإيرانية، وهو تصريح فسّر بوضوح الانزعاج الإيراني من التقارب والتعاون والشراكة الصينية- السعودية- الخليجية.

ويلاحظ للمتابعون أن التلفزة الصينية كانت قد أذاعت شريطاً لمقابلة مع إبن شاه إيران بالتزامن مع استمرار الاحتجاجات داخل إيران، فردّت طهران بإيقاظ بعض نشطاء الايغور لأعمال إرهابية وشغب ضد الصين ( على غرار داعش والقاعدة ).

من هنا ارتسمت في المنطقة معادلات جديدة ستحمل إيران عاجلاً أم آجلاً على الموافقة على هدنة في اليمن خاصة بعدما تشكّلت الحكومة العراقية التي أعادت بعض الأوراق للإيرانيين في مقابل تنازلات في اليمن وفي لبنان مع تسهيل ترسيم الحدود البحرية، فالصين قادرة على الضغط على الإيرانيين لضمان هدنة طويلة الأجل في اليمن تريح الجانب السعودي والخليجي وتفتح الطريق أمام تراجع التهديد الإيراني في المنطقة.
واشنطن من جهتها بدأت رغم ديمقراطيتها ونهجها الاوبامي تتخلى عن الورقة الإيرانية رويداً رويداً خاصة بعد اصطفاف الملالي الى جانب الرئيس بوتين في حربه في أوكرانيا وتزويد الكرملين بمسيّرات تقصف وتدمّر البنى التحتية في أوكرانيا، وضعف التأثير الروسي في المنطقة مع انسحاب موسكو من سوريا وتولية إيران أمر بشار الأسد ونظامه كاملاً واستفحال الشهية التركية في قضم مناطق في شمال سوريا والعراق تشكلان تهديداً كردياً وجودياً لأنقرة، بالتزامن مع استمرار الغارات الإسرائيلية على سوريا وقواعد إيران وحزب الله وقوافل صواريخهم ووصول حكومة يمينية متطرفة الى إسرائيل برئاسة بنيامين نتانياهو.

لكل إدارة أميركية مقاربتها لملفات الشرق الأوسط فيما مصالح واشنطن لا تتغير مع شركائها في المنطقة وبخاصة مع الخليج وفي الطليعة مع المملكة العربية السعودية.
من هنا لاحظنا كيف أن واشنطن لم تعترض على العلاقات الصينية- السعودية المستجدة، وقد أكدت الرياض أكثر من مرة على لسان مسؤوليها أن المصالح الأميركية في المنطقة مستمرة وستبقى قوية.

في عصر 11/9، تمدّدت إيران في المنطقة بفعل التخادم الأميركي- الإيراني، لكن الآن انتهى هذا التخادم أو يكاد، وبات على طهران أن تفكر في كيفية الخروج من المنطقة، مع الإشارة الى أن طهران هي التي أنهت التخادم مع الأميركيين وليس العكس بمجرد اصطفافها مع الجانب الروسي ومساهمتها في قصف الناتو في أوكرانيا.
هذا الخروج الإيراني من المنطقة هو البند الأول للمرحلة المقبلة هذا العام، والخروج سيكون بنظر إدارة بايدن بحسب شروط مايك بومبيو الإثنتي عشر (وزير الخارجية الأميركي السابق في عهد الرئيس دونالد ترامب) خاصة وأن المرحلة حالياً هي مرحلة خطيرة مع تأكد فشل الاتفاق النووي ومنصة فيينا.

المشهدية الإقليمية اذاً في مرحلة متغيّرات جذرية، وكما يقول المثل الشعبي " عند تغيير الدول إحفظ رأسك " الأمر الذي لا يبدو أن لبنان بمعزل عنه، وهو لا يبالي بنفسه متكلاً على خارج سينظر اليه في أحسن الأحوال على أنه ورقة مقايضة، وفي أسوأها على أنه بلد لا يمكنه حكم نفسه بنفسه.

تقرير بيكير - هاملتون إثر تفجيرات السامراء في العراق عام 2006، أوصى بانسحاب أميركا وتقديم العراق لإيران فانسحب الأميركيون من العراق ومن أفغانستان، واحتقنت الأوضاع السياسية العراقية الى أن انفجرت مع المظاهرات في المنطقة الخضراء " "فركبت حكومة السوداني الموالية للحشد الشعبي أي لإيران" والتي أُطلق عليها إسم حكومة الفرصة الأخيرة لطمأنة إيران في مقابل البحث في تخليها عن أوراق أخرى في المنطقة.
واليوم طالبان في أفغانستان عادت لتتحدى الغرب والأميركيين تحديداً وأن من ضمن قواعد لعبة لا تزال مضبوطة الشروط والآليات.
الصين تتملّص شيئاً فشيئاً من الحليف الروسي الثقيل، مصدر الصداع كما تملّصت من الحليف الإيراني الضعيف، فبيجين تحب التعامل والشراكات مع الأقوياء، فيما رهانات إيران على روسيا والصين سقطت، فروسيا حذفت نفسها بنفسها من المشهد الإقليمي وكذلك إيران الغارقة في الداخل وفي أوكرانيا مع الروس. وهكذا تبقى الصين صاحبة المعادلة الاقتصادية فيما الولايات المتحدة تبقى صاحبة المعادلة العسكرية والاستراتيجية والسياسية.

روسيا ذاهبة الى ما بعد بوتين وإيران الى ما بعد نظام الملالي … والعام 2023 بدأ …

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: