ما حصل خلال اليومين الماضيين في البرازيل وتحديداً في العاصمة الإدارية برازيليا، معطوفاً على أحداث 6 كانون الأول 2021 في مبنى الكونغرس الأميركي، يطرح أكثر من علامة استفهام ليس حول مسبّبات الأحداث الآنية تلك بقدر ما تتعلق بالأسباب العميقة التي حَدت بالشعوب الى انتهاج هذا الأسلوب البدائي في التعبير عن رفض أو سخط أو اعتراض.
تلك الأحداث المتشابهة في دول ديمقراطيات عريقة أو متقدّمة تستدعي منا محاولة التعمّق في فهم حقيقة التطورات والمعادلات التي أدت الى ما نشهده في الآونة الأخيرة في العالم.
إن إقدام معارضي الرئيس لولا دي سليفا على اقتحام القصر الجمهوري والمحكمة العليا ومبنى الكونجرس "مقرات الحكم الثلاثة الرئيسية بالبلاد" من قبل أنصار الرئيس السابق جايير بولسونارو، اليمني المتطرّف وحليف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ضمن مسلسل يهدف الى النيل من الرئيس البرازيلي المنتخب حديثاً، يشير بأصابع الاتهام الى وعكة صحية شديدة ألمّت بالديمقراطيات الغربية، وبدأت عدواها تتنقل بين بلد وأخر.
نعود الى محطات أساسية من التاريخ الحديث للبرازيل حيث تراكمت في خلاله مسبّبات وتفاعلات وأحداث متشابكة ومترابطة كتبت الى حد كبير السنوات الحالية من الحياة السياسية المختلّة، فاللجوء الى العنف كما يحصل حالياً ظاهرة لم تكن وليدة ساعتها في البرازيل وهذا ما تؤكده المحطات التاريخية الآتية :
في العام 1985، سقطَ النظام العسكري داخل البرازيل والذي حكمَ منذ 1964، تناوب خلاله على الحكم 7 رؤساء في 21 عاماً، ثم سيطرت الأحزاب اليمينية على الحكم بانتخابات أتت بـ 4 رؤساء.
وفي العام 2003، انُتخب لولا دا سيلفا كأول رئيس يساري يحكم البلاد واستمر لفترتين رئاسيتين "رفض خلالهما تعديل الدستور بزيادة مدد حكم الرئيس عن فترتين" انتهت في يناير 2011، مع استمرار حكم حزبه "حزب العمال البرازيلي" للرئاسة، عبر الرئيسة ديلما روسيف، التي استمرت مدة 4 سنوات بدورها.
ثم في العام 2016، عاد الحكم للحزب اليميني عبر الرئيس اللبناني الأصل ميشال تامر وكانت نائب الرئيس السيدة ديلما روسيف. في العام 2017 حُكمَ على الرئيس السابق دا سيلفا بالسجن مدة 9 سنوات بتهمة الفساد وغسيل الأموال،
وفي العام 2019 انُتخب الرئيس جايير بولسونارو، وهو يمثّل تيار اليمين المتطرّف في البرازيل، وفي نفس العام خرج الرئيس السابق دا سيلفا من السجن بعد سنة ونصف السنة بعد أن اتخذ قاضي المحكمة العليا البرازيلية قراراً قضى بإلغاء إدانته بقضية "الكسب غير المشروع"،
وفي العام 2022، فاز دا سيلفا في الانتخابات الرئاسية على حساب جايير بولسونارو بعد جولة إعادة بنسبة طفيفة جداً 50.9% من الأصوات وهو لم يتسلّم السلطة الى الآن.
وفي نهاية العام 2022، حاصرَ أنصار الرئيس بولسونارو اليميني المتطرف مقرّ إقامة دا سيلفا محاولين اقتحامه، وذلك بعد حرق سيارات الشرطة الفيدرالية وإثارة الفوضى بالعاصمة برازيليا.
ومن ثم تسارعت الأحداث على نحو تصعيدي أنذر بانفجارٍ ما في البلاد، ففي نهاية ديسمبر 2022 سُجّل إطلاق نار على مقرّ إقامة الرئيس دا سيلفا من دون الكشف عن هوية مَن يقف خلف هذا الحادث، ثم وفي نفس الفترة سافر بولسونارو إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث علاقته قوية بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وذلك قبل ساعات من تولية دا سيلفا للحكم رسمياً، وفي أوائل هذا العام، نُظّم حفل تنصيب الرئيس دا سيلفا لبدء ولايته رسمياً،
وبالتزامن تم الكشف عن تخريب القصر الجمهوري من قبل الرئيس الخاسر بولسونارو وذلك قبل مغادرته للبلاد. وفي 8 كانون الثاني، قام أنصار الرئيس الخاسر باقتحام مبنى الكونجرس الوطني، ثم تحركوا واقتحموا المحكمة البرازيلية العليا، وبعدها القصر الرئاسي، وتم تحطيم النوافذ والمكاتب في "صورة مماثلة لما حدثَ في 6 يناير 2021 مع أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب واقتحام مبنى الكونجرس الأميركي.
هذا الشريط الموجز لأبرز محطات الحياة السياسية في البرازيل قسّمَ المجتمع البرزايلي أفقياً بين يمين ويسار، وأسقط لغة التفاهم والتحاور بين ضدين لا يلتقيان، تماماً كما في الولايات المتحدة الأميركية حيث من الصعب إخفاء حالة التوتر المجتمعي القائم، لا بل حالة الحرب الأهلية المقنّعة القائمة بين الديمقراطيين الليبراليين واليساريين والجمهوريين المحافظين.
وفي هذا السياق، نُسجل اللغط لا بل الخلط المستشري في المفاهيم وتفسير المصطلحات بين اليمين واليمين الوسط واليمين المتطرف "الراديكالي"، واليسار واليسار الوسط واليسار الديمقراطي، واليسار المتطرف، والشيوعية والماركسية، وكلها مصطلحات أصبحت " سكوبات " في ظل تصادمات الواقع السياسي للتيارات السياسية الحاكمة حول العالم، وقد أجمع علماء السياسة العصريين على اعتبار أن هناك عاملين أساسيين لتقييم أي حركة سياسية: الأول هو رؤية أصحاب الفكر للمجتمع وتقييمه وما هو الأنسب لإصلاحه، والثاني هو رؤيته للوسائل التي يستخدمها لتطبيق أفكاره، من هنا وبعيداً عن أساس الفكر، نجد أن مصطلحات "متطرف - راديكالي"، تنطبق على أي تيار سياسي يسعى لفرض رؤيته بالقوة مع امتلاك نظرة فوقية وعنصرية للبشر، سواء كان متّبع هذا الأسلوب في الأساس يميني أو يساري أو إسلامي، أو محافظ أو عمالي أو علماني، أو أي إسم آخر يعبّر عن فكر سياسي واجتماعي محدّد،
وقد أثبت التاريخ منذ يوليوس قيصر، أيام روما العظيمة الى الإمبراطوريات الحديثة مروراً بالعصر النابليوني، انتهاج المستكبرين فكرياً وعقائدياً المنهج المتطرّف نحو الدكتاتورية والفاشية والحكم العسكري، مع عدم معارضة استخدام الديمقراطية كوسيلة للوصول للحكم متى خدمت تلك الأنظمة.
وكذلك نجد تداخلاً وسط الحزب الواحد، بحيث يكون هناك أحزاب يمينية وبداخلها تيار يمين متطرف، أو يكون هناك حزب يساري وبداخله يسار متطرف، فهنا يكون الفكر السياسي واحد ولكن الاختلاف في الأداء، ومن هنا يمكننا فهم انقسام الحزب الجمهوري على نفسه، وهو حزب يميني محافظ، في انتخاب رئيس مجلس النواب الأمريكي مؤخراً، بحيث كان الصراع بين اليميني الوسطي واليميني المتطرف.
تاريخياً ومع ظهور الجماعة الوطنية بعد الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، كانت فئة المحافظين تجلس على اليمين من منصة المجلس، ولذا سُمّي المحافظون باليمنيين، بينما كان يجلس على جهة اليسار، القوى التغييرية والتي تطالب بإجراء تغييرات جذرية وإلغاء النظام الملكي والملكية المطلقة، فسّميوا باليساريين.
منذ بداية الألفية الجديدة، وقع العالم في صراع دموي بين التيارات السياسية والفكرية كافة، سواء يمينية أو يسارية أو إسلامية، واليمين المتطرف والدكتاتورية اللذين اجتاحا العالم بشكلٍ مرعب في ظل رفض أساليب الديمقراطية من الأساس، وبين اليمين المتطرف الذي يعمل من خلال الديمقراطية، وينتظر أقرب فرصة لقتلها إن لم تخدم وصوله الى السلطة، ومن هنا نرى أنّ اليمين المتطرّف ارتبط تاريخياً بالدكتاتورية والطغيان والصراعات والحروب ومعاداة العولمة الثقافية والاجتماعية، بالتزامن مع بروز تحالفات بين شعوب وأحزاب دول متشابهة في العقيدة والأيديولوجيا والذهاب في ما بينها الى حد التحالف في بعض الدول بين اليمين واليمين المتطرّف في خضم الصراعات السياسية على الحكم في تلك الدول.
والمثال الأحدث هو التحالف بين اليمين المَجَري الحاكم واليمين الإيطالي الحديث الحاكم، وبين اليمين الفرنسي المتمثّل بالتجمع الوطني والحزب الراديكالي الإيطالي.
فوز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في انتخابات 2017، افتتح مرحلة وصول اليمن المتشدّد الى السلطة في الغرب والعالم المتأثر به، ثم تلته سلسلة من الانتصارات لأصحاب هذا النهج في دول عدة، وكان منها البرازيل فوصل الرئيس جايير بولسونارو الى الحكم في 2019، فما يجمع بينهما هو النهج الذي اعتمداه في رفض نتائج الديمقراطية التى لا تأتي بهم، بحيث لا يتوانى أصحاب هذا التيار عن استخدام العنف واستعمال السلاح إذا لزم الأمر انطلاقاً من قناعة راسخة لديهم بأنهم خير من يمثّل الشعوب وإرادتها.
ما حصل في البرازيل منذ أيام، أفرز في المشهد السياسي البرازيلي 3 كتل حزبية رئيسة في البلاد :
- التيار اليساري الليبرالي وأبرز حزب يمثّل ذلك هو حزب الرئيس الحالي لولا دا سيلفا أي حزب العمال اليساري، وكتلة اليمين المتطرّف والتي يمثّلها حزب اتحاد البرازيل الذي أسسه الرئيس السابق جايير بولسونارو في 2021، حيث دمجَ فيه أكبر حزب في البرازيل، الأول حزبه الأساسي الذي مثّله كنائب في البرلمان منذ 1991، وهو الحزب الليبرالي الاجتماعي اليميني المتطرّف، وبين حزب الديمقراطيين
( أو يمين وسط )، فيما الكتلة الثالثة هي الأحزاب اليمينة المعتدلة، وتمثّلها أحزاب عدة، منها أحزاب تكوّنت نتيجة الخروج من الحزب الديمقراطي بعد تحالفها مع اليمين المتطرف وأحزاب أخرى قديمة.
الرئيس المنتخب لولا دي سلفا أمام تحديات كبيرة وحكمه لن يكون سهلاً، وهو وإن حظي بتأييد أنصار حزبه والمجتمع الدولي و الرئيس الأميركي الديمقراطي ورؤساء دول أوروبا ذات التوجّه الديمقراطي الليبرالي، انما يواجه في الداخل أشرس وأخطر مواجهة مع الحركة التي تجمع في العلن بين اليمين المتطرّف وأصحاب المصالح المشتركة معهم، مثل زعيم السكان الأصليين خوسيه أكاشيو سيريري زافانتي، مكاسب مالية من التنقيب عن الذهب داخل غابات الأمازون، ويعارض ذلك دا سيلفا، أما خارجياً فيؤيده أنصار اليمين المتطرّف مثل الرئيس ترامب في أميركا.
ثمة حقيقة واحدة اليوم في العالم : الأنظمة الديمقراطية باتت في أزمة مصيرية مع ذاتها وبذاتها …